الفصل الحادي عشر
حدّد كريم موعد أولى جلسات العلاج الكيميائي لنوران في اليوم التالي مباشرة، محاولًا كبح تدهور حالتها الصحية قبل أن يستفحل.
كانت تعرف ما ينتظرها: الضعف، الإرهاق، وربما تساقط الشعر… كل تلك الآثار الجانبية القاسية التي لا ترحم.
ولذلك، كان عليها أن تُنهي كل ما يجب إنهاؤه قبل أن تبدأ رحلة العلاج.
ورغم أن والدها جاد لا يزال في غيبوبة، إلا أنها على الأقل لم تعد مضطرة للقلق بشأن فواتيره الطبية. كانت قد سددتها بالكامل، لترتاح من عبء مادي إضافي.
ثم عادت إلى المنزل الذي كانت تتشاركه يومًا مع أحمد. لم يكن المنزل مألوفًا لها كما كان من قبل، بل بدا غريبًا وباردًا… كأن كل ذكرى دافئة فيه تحولت إلى رماد.
خشيت أن ينهكها العلاج، فبادرت بحجز خدمات شركة نقل استعدادًا للرحيل.
كانت تنوي مغادرة هذا المكان على أي حال، ولكن الآن… صار الأمر ضرورة.
زارتها صديقتها المقربة، ليان حمدان، وهي تتهادى بكعبها العالي الذي أعلن عن قدومها من آخر الرواق، مرتدية بدلة أنيقة، تحمل حقيبة كروس بودي على كتفها، وفي يدها الأخرى كيسان من رقائق البطاطس.
دوّى صوتها الحيوي في المكان حتى قبل أن تدخل:
“نوران! أخيرًا تخلّصتِ من العذاب! خمني؟ حصلت على عمولة بيع خرافي الشهر الماضي، واليوم سأدفع! نخرج الليلة لنادي دارك هورس… في كم هائل من الرجال الجاهزين لتعويضك!”
كانت ليان قد سافرت في الأسبوع الذي اختفت فيه نوران، لزيارة حبيبها، ولم تكن تعرف بتشخيصها. ظنت ببساطة أن صديقتها استعادت رشدها، وقررت أخيرًا الطلاق من أحمد.
ضحكت نوران، لكنها لم تقل شيئًا عن مرضها.
“لا أظن أن هذه فكرة جيدة… قد يعود حبيبك ليطرق بابي غاضبًا حين يسمع بخطتك.”
انطفأت ابتسامة ليان تدريجيًا، وقالت بمرارة:
“لا تذكّريني به. لن أؤمن بالعلاقات عن بُعد بعد الآن. أردتُ مفاجأته… ففاجأني! استغل كل ما أرسلته له من عمولات، وصرفها على فتاة أخرى.”
ورغم نبرتها الساخرة، لم تستطع إخفاء الوجع في عينيها. علاقة استمرت سبع سنوات، ذابت في ثوانٍ بسبب الخيانة والمسافة.
أرادت نوران أن تواسيها، لكنها شعرت بأنها أقل شخص مؤهل لتقديم العزاء.
زواجها كان فوضويًا، محطمًا، والآن، ها هي تخوض معركة صامتة ضد الموت.
فاكتفت بالقول، محاولة التخفيف من وطأة الموقف:
“بمعرفتي بكِ، لا بد أنكِ قلبتِ الدنيا فوق رأسه.”
ابتسمت ليان وجلست بجوارها على المقعد الخشبي في حديقة الزهور. ناولتها كيسًا من رقائق البطاطس، بينما بدأت هي بتناول الآخر.
قالت، وعيناها تراقبان السماء الرمادية:
“أعتقد أنني تغيّرت. صرتُ أكثر هدوءًا. كنت دائمًا أشعر أن هناك شيئًا غير مريح، لكنني تجاهلت الإشارات. الحب أحيانًا معقد… تقع فيه لألف سبب، لكن أحيانًا يكفي سبب واحد للخروج منه.”
تنهّدت بعمق، وتابعت بنبرة حزينة:
“في البداية، كان يقطع المسافات ليراني في عيد الحب، حتى لو كانت لديه ثلاثة أيام إجازة فقط. أما الآن… لم يعد لي منذ ثلاث سنوات.”
سكتت للحظة، ثم أضافت:
“كان يرسل لي رسالة كل صباح يقول فيها: صباح الخير… ثم بدأ يختفي شيئًا فشيئًا. ظننت أنه منشغل بدراساته العليا، فبدأت أعمل كوكيلة عقارات لأدعمه ماديًا، وفي نفس الوقت كنت أدرس”
ازداد الحزن على ملامح ليان، وخفت صوتها وهي تقول:
“ماذا لم أفعل لأجله؟ اشتريت له منزلًا خارج البلاد من أموال عمولاتي… كل ما جنيته، منحته إياه.”
تنهدت نوران، تشعر أن ما تسمعه يتجاوز حدود الخيال، كأنه مشهد مقتطع من مسلسل درامي حزين.
واصلت ليان بمرارة:
“في لحظة، شعرت أنني على وشك الانهيار. تخيلي فقط… أن أراه يكسر ثقتي فيه وهو يرتدي الملابس التي أهديته إياها بنفسي. الأمر بدا سخيفًا، بل مهينًا.”
رغم ابتسامتها، انزلقت دمعة على خدها وسقطت بصمت على كيس رقائق البطاطس في يدها.
“كنت أحرم نفسي من كوب القهوة لأوفر له، أعيش بتقشف لأدعم شخصًا لا يستحق. وأنا… طالبة طب ناجحة، أجوب المدينة بحثًا عن صفقات عقارية لأؤمّن له حياة مريحة. والآن… لا أستبعد أن يكون اشترى الواقيات الذكرية من بطاقتي البنكية.”
مدّت نوران يدها واحتضنتها بحنان:
“كفى، ليان… لا تبكي. صدقيني، لا يستحق دموعك.”
ابتسمت ليان ابتسامة ممزوجة بالخيبة، وقالت:
“أعرف. لم أصرخ، لم أفضح. فقط أشعلت سيجارة، وبدأت أحسب كم من المال يجب أن أسترده منه. الحمد لله أنني سجّلت المنزل باسمي. طردته هو وتلك العاهرة في الليلة نفسها.”
نظرت إليها نوران بدهشة من ثباتها:
“هل وافق؟ هل استسلم للأمر؟”
هزّت ليان رأسها ساخرة:
“سقط على ركبتيه يتوسلني، يبكي كطفل. قال إنه ارتكب خطأ، وطلب فرصة ثانية. لكن وأنا أنظر إليه… تساءلت: كيف أحببتُه من الأساس؟”
ثم تابعت:
“بقيت هناك يومين فقط. بعت المنزل، أغلقت كل الطرق المؤدية إليه… ثم عدت.”
مسحت دموعها سريعًا وتنهّدت:
“نوران، نحن لم نعد في عمر الأحلام الوردية. الحب جميل، لكنه لا يُشبع الجوع ولا يُسدد الفواتير. عليكِ أن تختاري: إما الحب… أو الخبز.”
ابتسمت بمرارة وأردفت:
“كنتِ معترضة على طلاقي حين حصل قبل سنة، لكنني سعيدة لأنكِ أخيرًا اتخذتِ الخطوة. وبمجرد أن تنتهي من تسوية الطلاق مع أحمد القيسي، ستكونين أقوى من أي وقت مضى.”
ثم ضحكت بخفة وهي تتناول آخر رقائق البطاطس:
“تخيلي فقط… حتى لو خسرتِ حبيبك، تملكين الآن ثروته. أنفقيها على عشرة رجال وسيمين، أليس ذلك عزاءً لائقًا؟”
سعلت نوران بخفة وقالت بتردد:
“في الواقع… لم آخذ إلا عشرة ملايين.”
شهقت ليان وقد انفتحت عيناها بدهشة:
“ماذا؟ فقط عشرة ملايين؟! أحمد القيسي؟! أهذا كل ما قدّمه؟ ألم يكن في السابق يُنفق بلا حساب؟ مذ متى صار بخيلًا؟”
اكتفت نوران بابتسامة باهتة، وقالت بصوت خفيض:
“عندما يحبك الرجل، يعطيك كل شيء. وعندما يزول حبه… تصبحين بلا قيمة.”
ثم نهضت وهي تُنهي الحديث:
“دعينا لا نتحدث عنه. أردتكِ فقط لمساعدتي على الانتهاء من الانتقال.”
ليان نهضت معها وقالت بحماسة:
“بكل تأكيد. وبعدها، عشاء فاخر على حسابي.”
ابتسمت نوران وقالت:
“أوافق.”
كانت الفيلا لا تزال تحتفظ بمعظم ممتلكات أحمد، لذلك لم يكن على نوران سوى جمع أشيائها القليلة. لم تكن مغادرة… بل أشبه بتصفية متأنية لذكرى.
في الممر، عُلّقت صورة زفافها على الحائط. كانت تبتسم فيها بسعادة غامرة، وحتى أحمد بدا مبتسمًا، على غير عادته.
هزّت ليان رأسها وقالت ساخرة:
“ما رأيك أن نحرق هذه الصور؟ أو نعيد تدويرها لنشتري رقائق بطاطس؟”
ردّت نوران بهدوء:
“لا حاجة. كل شيء يجب أن يُقسّم بالنصف وقت الطلاق.”
أمرت مدبرة المنزل بإخراج الصور من الإطارات، وقص صورها منها، ثم إعادة صور أحمد إلى مكانها.
الغرفة الوحيدة التي ترددت في دخولها كانت غرفة الأطفال… الغرفة التي صممتها بنفسها، وساعدها أحمد في تزيينها ذات يوم. كانت تحمل حلمًا لم يكتمل.
لم تشأ أن تضع طفل مرام قدمه في مكانٍ بُني لطفلها الذي لم يولد.
بعد عام من إنشائها، طلبت من فريق النقل تفكيك سرير الطفل، وإزالة الزينة.
بشكل مفاجئ، لم تستغرق إزالة كل ما بناه قلبها سوى ساعات قليلة. بينما الذكريات، التي استغرق صنعها شهورًا من الأمل، رُميت مع الأشياء… في سلة المهملات.
وقفت نوران عند باب الفيلا، تتأمل المكان الذي شهد بدايتها.
فرحتها يوم انتقلت إليه كانت صافية، أما اليوم… فالحزن يشبه غيمة لا تنقشع.
نظرت نظرة أخيرة، ثم أغلقت الباب، وابتعدت.
“ليان… تعالي معي إلى الصالون.”
ربّتت ليان على كتفها وقالت بحماسة:
“رائع! نحتفل ببدايتك الجديدة بتصفيفة شعر جديدة! سأصبغ شعري باللون الوردي! وأنتِ، ما رأيك؟”
أجابت نوران بهدوء، دون تردد:
“أريد قصّه قصيرًا.”
رفعت ليان حاجبيها، قلقة:
“نوران، أنتِ جميلة في كل حال، لكن لا تقصّيه كثيرًا… قد تندمين.”
لم تكن تعلم أن نوران قررت ذلك لأنها بدأت تستعد لتساقط شعرها الوشيك مع بداية العلاج.
ابتسمت نوران، وقالت بهدوء:
“لا… لن أندم.”