رواية حتى بعد الموت الفصل 12

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل الثاني عشر

بعد سلسلة من خيبات الأمل العاطفية، قررت نوران وليان الذهاب إلى صالون التجميل، كأنهما تعيدان رسم ملامح حياتيهما لا وجهيهما فقط. اختارت ليان لهما مصففي شعر بحماس طفولي، وكأنها تقود حملة تجديد شامل.

بمجرد أن جلست نوران على الكرسي، انبهرت بها المصففة، وأخذت تقترح عليها تسريحات عصرية تتماشى مع الموضة. لكنها رفضت بصوت حازم:
“أريده قصيرًا… أقصر ما يمكن.”

قالت المصففة برفق:
“عزيزتي، أعلم أن المظهر الجريء رائج، لكن الشعر القصير قد يقيّد خياراتك في تنسيق الملابس. ماذا عن قصة بطول الكتف؟ ستبدين أصغر سنًا وأكثر أناقة.”

ردّت نوران باقتضاب:
“لا بأس.”

راقبها المصفف الآخر، وقال بأسف وهو يلمس أطراف شعرها الطويل:
“شعركِ جميل وكثيف. من الواضح أنكِ اعتنيتِ به طويلًا. من المؤسف حقًا قصّه.”

كانت نوران تحدّق في انعكاسها في المرآة، عيناها جامدتان، ملامحها ثابتة رغم القلق الذي يحاصرها. شعرها، الذي لطالما حافظت عليه لأجل أحمد، بدا الآن عبئًا يربطها بماضٍ لم تعد تريده.

وبينما المصفف يتردد في بدء القص، مدت يدها إلى المقص وقالت بنبرة هادئة لكن حاسمة:
“سأبدأ بنفسي.”

قصّت خصلة طويلة من شعرها وسقطت على الأرض كأنها قطعة من روحها تُنتزع. كانت تلك اللحظة رمزًا خفيًا، تودّع فيها سنوات البراءة، وشبابًا خذلها.

ثم ناولت المقص للمصفف، وقالت:
“الآن، أكمل أنت.”

عادت ليان من غرفة التلوين بشعر وردي لامع، وما إن رأت نوران حتى شهقت:
“يا إلهي! تبدين رائعة! كنت أعلم أن أي قصة ستليق بكِ… لكن هذا؟ هذا مستوى آخر!”

ضحكتا معًا، ثم اتجهتا إلى متجر قريب حيث اشترت ليان مجموعة من الملابس المحايدة لتتناسب مع قصة شعر نوران الجديدة، وكان مرورهما في الشوارع كمرور نجمات على سجادة حمراء؛ الأنظار تتبع، والهمسات تتطاير.

مع حلول الليل، التقطت ليان سيلفي لهما أمام واجهة متجر مضاءة، وعلّقت على الصورة في إنستغرام:
“ولادة من جديد.”

ثم توجّهتا لتناول عشاء فاخر طالما رغبتا فيه. كان الطبق المفضل أمام ليان، لكن السعادة كانت أعمق من مجرد نكهة.

قالت ليان وهي تقلب ذكرى:
“ألا تشعرين وكأننا عدنا إلى أيام المدرسة الثانوية؟ كان أكبر همّنا حل مسائل التفاضل والتكامل… أما الآن؟ نُكرّس كل شيء للرجال، وكل ما نحصل عليه هو… خيبة أمل.”

ارتشفت نوران من كأسها القليل، وقالت مازحة:
“أنتِ فقط سيئة في الرياضيات. التفاضل والتكامل لم يكن صعبًا يومًا.”

ضحكت ليان:
“آه أجل. عبقريتنا الصغيرة. كنتِ في الثالثة عشرة فقط عندما التحقتِ بنا في الثانوية. ظننتكِ تائهة من المرحلة الإعدادية!”

ثم رفعت كأسها وقالت:
“عبقرية أو غبية، لا يهم… فلنشرب لعزوبيتنا! على الأقل الآن يمكنني أن أشتري ما أريد دون أن أتلقى محاضرة من ذلك الوغد.”

ورغم ضحكتها، انهمرت دموعها فجأة، وكأنها لم تأذن لها بالخروج.

“نوران… كنت أشتري شرائح لحم رخيصة من السوبر ماركت لأدّخر له. بذلت كل ما لدي لدعم دراسته، لبناء مستقبل لنا. وها أنا في الرابعة والعشرين، ولم أمتلك حتى فستانًا يليق بي! كيف استطاع أن يطعني بهذه القسوة؟”

نظرت نوران إليها بعطف، لكنها لم تجد شيئًا تقوله يخفف الألم. كانت هي الأخرى غارقة في أحزانها. واكتفت بأن تمسك يدها بلطف وتهمس:
“الآن… أنتِ حرة. وما يأتي سيكون أفضل.”

أرادت ليان العودة إلى المنزل، لكن شيئًا في داخلها لم يستطع التوقف. فجرّتها نوران، أو بالأحرى جرّتها ليان وهي ثملة العاطفة، إلى نادي “دارك هورس”.

تنهدت نوران، وأدركت أن صديقتها لا تزال تحتاج إلى التنفيس… إلى لحظة تصرخ فيها دون قيود. فهي لم تحصل حتى على وقت كافٍ لتستوعب خيانة حبيبها قبل أن تعود مسرعة من الخارج.

ورغم ترددها، لم تعترض نوران. كانت تعلم أن الأيام القادمة قد لا تمنحها متسعًا للاستمتاع. فمن يعلم كيف ستخرج من العلاج الكيميائي… إن خرجت أصلًا.

تلك الليلة، دخلت ناديًا لأول مرة في حياتها.

ربّتت ليان على يدها بحماسة، وصاحت:
“انظري إلى ذلك الوسيم! هل رأيتِ المرافق؟ وسيم بشكل رائع!”

لكن نوران كانت شاردة، تحدّق في لوحة ضخمة لفرس أسود في الردهة، وعينيها تلمعان بحزن مبهم.

ابتسمت ليان وقالت بمرح:
“انطلقي واستمتعي! إذا كنا سندفع الثمن! أليس كذلك؟”

ردّت نوران بابتسامة خفيفة:
“أنتِ على حق تمامًا.”

ليان، التي لم تكن تدفع أجرة سيارة أجرة في الماضي، تحوّلت فجأة إلى امرأة واثقة تنفق بحرية، كما لو أنها تمحو بخطوة واحدة آثار سنين من التنازلات.
اصطحبت نوران إلى صالة راقية تطل على المدينة، ذات إضاءة خافتة وأجواء أنيقة تشبه مشاهد السينما. جلستا على أريكة وثيرة، تحيط بهما طاولات مزينة بالورود البيضاء وكؤوس العصائر الطبيعية المثلّجة.

رفعت ليان يدها بطرف أناملها وطلبت عشر زجاجات من أغلى مشروب فواكه طازجة في القائمة، متجاهلة محاولة نوران اعتراضها.
“ليان، هذا كثير…”

ابتسمت بثقة وقالت:
“قليل من الرفاهية لا يُؤذي أحداً.”

كانت تصر على أن تجعل هذه الليلة مختلفة، لا للبذخ، بل لتأكيد أنهنّ قادرتان على بدء حياة جديدة… بكرامة وجمال.

في الماضي، كانت ليان تشق طريقها في عالم العقارات بثبات. اليوم، أصبحت من أبرز الأسماء في السوق، تبيع الفلل الفاخرة، وتُغلق صفقات بمئات الآلاف.
لو لم تمنح كل ما جنته لحبيبها السابق، لكانت الآن مليونيرة من الطراز الأول.
لكنها لم تندم، بل أرادت أن تبدأ من جديد – بثقة، وبحضور، وبكرم تجاه نفسها وصديقتها.

في مكان آخر، تحديدًا في خليج النوارس، كان الطفل قد بدأ يتنفس بهدوء، وقد انخفضت حرارته أخيرًا بعد يوم طويل من الرعاية.

وقف أحمد بجوار السرير، يراقب وجه الطفل النائم، ثم تنهد مطولًا، وكأن حملاً ثقيلًا انزاح من على كتفيه.
خرج بهدوء من الغرفة، لتستقبله مرام بابتسامة دافئة:

“الوقت متأخر، ألا تبيت هنا الليلة؟ أنا قلقة أن يستيقظ الطفل، وأنت الوحيد الذي يهدأ معه.”

فرك أحمد صدغيه وقال بإرهاق:
“عليّ حضور التزام ضروري. الدكتور غارسيا سيكون متاحًا إن احتجتِ شيئًا.”

ترددت مرام، كأنها تود قول شيء آخر، لكنها لم تستطع. كانت تتوقع أن يفتح أحمد الحديث عن الطلاق، خاصةً بعد اتصالها المطوّل في وقت متأخر من الليل.
لكن… لا شيء. كأن الموضوع لم يُطرح أبدًا.

قالت أخيرًا، بنبرة منخفضة:
“حسنًا… كن حذرًا أثناء العودة.”

أومأ برأسه، واتجه نحو السيارة. هناك، ناوله هشام مفتاحًا وهو يقول:
“السيدة القيسي أعادت مفتاح الفيلا.”

تجمدت نظرة أحمد لوهلة، قبل أن يزفر ببطء، ويهمس بمرارة:
“تتحرك بسرعة بعد أن تنال ما تريده.”

لم يرغب هشام في التورط أكثر، لكن شيئًا ما كان يُلحّ عليه، خاصة بعد أن رأى صورة ليان ونوران على “إنستغرام”.
قال بعد لحظة صمت:
“لكن يا سيدي… يبدو أنها تخلّت عنك فعلًا هذه المرة.”

الرواية كاملة من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top