رواية حتى بعد الموت الفصل 13

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 13

حين لاحظ هشام نظرة أحمد الجامدة التي انقلبت إلى جمر، اضطر إلى التوضيح سريعًا:
“سيد القيسي… إنها مع ليان.”

لم يكن الأمر مستغربًا؛ فـنوران وليان صديقتان مقربتان، لكن أحمد لم يتجاهل الإشارة. طلب من هشام متابعة حساب ليان على “إنستغرام” لرصد تحركات نوران، وما إن فتح الهاتف حتى عرض عليه منشورًا حديثًا.

ظهرت ليان في الصورة وهي تستعرض تجعيداتها الوردية الجريئة، لكن عينا أحمد لم تتحركا عن نوران.
كانت قد قصّت شعرها قصيرًا عند المنتصف، وهو ما منح وجهها الصغير ملامحًا أكثر حزنًا، على النقيض من إشراقتها المعهودة.
كانت تنظر إلى الأسفل، وقد ظهرت عظمة الترقوة من خلال قميص أكسفورد بسيط، تُغلف جمالها مسحة من الصمت المقدس.

العنوان كان واضحًا:
“ولدتُ من جديد.”

شعر أحمد بوخزٍ في صدره لم يفهم سببه. مضت سنة على انفصالهما، مليئة بالخلافات والتلاسن…
كان ينبغي أن يشعر بالراحة أخيرًا، أن يتنفس بحرية بعد أن اختارت هي الخروج من حياته.
لكنه، بدلاً من ذلك، شعر وكأن شيئًا داخله ينكسر بهدوء.

ذكّر نفسه بأن أخته رحلت، وأن نوران لا تملك الحق في الادعاء بأنها “وُلدت من جديد”.
أقنع نفسه بأن ما يشعر به ليس أسفًا… بل غضب.
رغبة في الانتقام.
لقد بدأ في تعذيبها عاطفيًا منذ شهور، ولم يكن ينوي التوقف الآن.

قطعت أفكاره كلمات هشام:
“السيدة حمدان… اصطحبتها إلى نادي دارك هورس.”

فتح هشام منشورًا آخر. ظهرت فيه نوران مستلقية على أريكة فاخرة، بينما كانت الإضاءة الخافتة تُحيط بها، ورجل وسيم يرتدي الأبيض يجثو على ركبته أمامها، ويُطعمها عنبًا بيده.

تجمّد أحمد، ثم قبض على الهاتف بقوة حتى كاد أن يُحطّمه.
قال بحدة:
“اذهب فورًا إلى النادي.”

في طريقه إلى هناك، كانت نظراته معتمة، تتبع خياله صورة الرجل ذو الرداء الأبيض.
هو يعلم كيف كانت نوران تنجذب لهذه الإطلالة تحديدًا، وقد رسمت له مرارًا صورًا بتلك الهيئة في مراهقتها.

أدرك فجأة، أنه لا يريد الطلاق.
بل لم يُرِد ذلك يومًا.
أرادها أن تبقى، لا حبًا… بل كفّارة.
كأن معاقبتها بوجوده بات قدرًا لا بد منه، تكفيرًا عن خطيئة لا تخصها بالكامل.

أما هشام، فجلس إلى جانبه حابسًا أنفاسه.
في العامين الماضيين، كان أحمد يرضخ لكل ما تريده مرام.
ومع ذلك… لم يكن في عينيه يومًا ذلك البريق الذي يظهر عندما يتحدث عن نوران، حتى في أوج غضبه منها.

كان هشام يعلم الآن:
نوران، رغم كل شيء، كانت الحب الحقيقي الوحيد.

وصل أحمد إلى النادي… لكن لم يكن هناك أثر لليان أو نوران.
أخبره الحارس أن صديقتين غادرتا قبل دقائق، إحداهما في حالة غير متزنة، ويبدو أن الأخرى اصطحبتها إلى المنزل.

أمر رجاله بالبحث فورًا. فتش هشام الفنادق، الشقق، وكل احتمالات الإقامة، لكن دون نتيجة.

قال هشام وهو يراجع سجلات الوكالات:
“سيدي… يبدو أنها كانت تخطط لهذا. ربما استأجرت مكانًا مسبقًا. البحث دون وكيل عقاري سيستغرق وقتًا.”

انكمشت نظرات أحمد وهو يهمس من بين أسنانه:
“إنها تنوي الرحيل… إلى الأبد. بعد أن حصلت على التعويض.”

ثم رفع صوته:
“اعثر عليها. بأي وسيلة.”

الخبر الجيد؟
لم تكن برفقة أي رجل.

لكن رغم ذلك، تم إحضار شابين كانا قد استضافا نوران في جناحهما بالمصادفة، فقط لبعض الوقت.

جلس أحمد في صالة شبه مظلمة، يُدخّن سيجارًا ببطء. كانت أنامله هادئة، لكن عيناه… نار تحت الرماد.

دخل الشابان، وجلسا بصمت، يرتجفان.

قال أحمد:
“ارفعا رأسيكما.”

ارتفع وجه أحدهما، عليه آثار مساحيق تجميل خفيفة، ورائحة عطر رخيص.

سأله أحمد، دون أن يرفع صوته:
“هل لمستها؟”

ارتبك الشاب وقال بتلعثم:
“لا… أبدًا. السيدة لم تكن تحب اللمس. جلست معنا قليلًا ثم غادرت مع صديقتها.”

ابتسم أحمد، بمرارة، ثم رفع ذقن الشاب ببطء.
حدّق في عينيه، وقال:
“لماذا تأكل العنب الذي أطعمته لها… أنا؟”

كان الشاب قاب قوسين أو أدنى من البكاء، يرتجف صوته وتتلعثم أنفاسه، وحين ظن أن الموقف لا يمكن أن يزداد سوءًا، جاء صوت أحمد ليزيد الطين بلّة:
“اقطعوا أصابعه.”

صرخ بيأسٍ مدوٍّ:
“السيد القيسي… أرجوك، ارحمني!”

لكن عناية القدر لم تتخلَّ عنه هذه المرة، فقد تدخّل هشام في اللحظة الحاسمة، عارضًا على أحمد تسجيلات كاميرات المراقبة، وقال بهدوء يختزن الكثير:
“السيدة القيسي لم تلمسهما قط، لم يكن هناك أي اتصال جسدي.”

كانت صدمة. الرجلان انفجرا في بكاء مرير، دموعهما تتدفق كأنما يغسلان بها ذنوبًا لم يرتكباها. لم يتخيّلا أن محاولة بسيطة للتقرّب من عميل ثريّ بتقديم عنبٍ ستقودهما إلى حدّ التهديد ببتر الأصابع. كل ما رغبا فيه هو مغازلة الحظ، والارتباط بامرأة ثرية تؤمّن لهما مستقبلاً مريحًا، ونهايةً هادئة.

لكن أحلامهما تحطّمت عند أقدام الواقع القاسي. استقبلا اليوم فتاة فاتنة، أنيقة الحضور، لكن لم تكلّف نفسها حتى نظرة واحدة نحوهما، رغم محاولاتهما المتكررة للفت انتباهها. لم تكن المصيبة في تجاهلها لهما فحسب، بل في أن رحيلها جلب معاناة لا تُحتمل… جلب أحمد القيسي.

يا لسخرية القدر!

تجاهلهم أحمد تمامًا، كما لو أنهم لا وجود لهم. عاد إلى سيارته، وانطلق يقودها بلا وجهة، شوارع المدينة تتلوى أمامه، فيما سؤال واحد ينهش ذهنه:
أين ستذهب نوران إن لم تجد مأوى؟

بعد أن أُدخل جاد إلى العناية المركزة، لم يعد ثمة داعٍ لوجودها في المستشفى، وقد اختفت عن الأنظار، مغلقة هاتفها، تاركة خلفها جرحًا مفتوحًا في ذاكرته.
زار أحمد كل الأماكن التي جمعت بينهما، بحثًا عن ظلّها أو أثر، لكن المدينة كانت خالية منها كأنها لم تكن.

أخيرًا، عاد إلى الفيلا — منزلهما الزوجي، ذلك المكان الذي لم يزره إلا نادرًا منذ تلك الليلة.
دخلها كمن يدخل مقبرة حب، فكل شيء بدا مرتبًا ونظيفًا، لكنه خالٍ من الدفء. كأن الحياة قد نُزعت منه.

كانت نوران تضع الزهور الطازجة كل صباح على طاولة الطعام. الآن، حتى المزهرية اختفت.
دخل غرفة النوم، فوجدها كما تركها، لكن الصور على الجدران تغيّرت؛ لم يبقَ منها شيء. اختفت نوران من صور زفافهما، وكأنها لم تكن يومًا. لم يبقَ سوى أحمد، واقفًا في الصور وحيدًا، شاحبًا، غريبًا حتى عن نفسه.

حتى بعد إفلاس عائلة الهاشمي، لم تأخذ من ممتلكاتها الفاخرة شيئًا. تركت الحقائب والمجوهرات وخاتمها الماسي. حزمت فقط بعض الثياب البسيطة، وذهبت.

في الحمام، اختفت فرشاة أسنانها وكوبها ومناشفها. لم يتبقَّ سوى فرشاة أسنانه الكهربائية، واقفة بصمت، كأنها تواسي وحدته.

قادته خطواته المثقلة إلى غرفة الأطفال، الملاذ الذي كانت نوران تهرب إليه كلما ضاقت بها الدنيا. فتح الباب ببطء، وقلبه يرتجف. وجد الغرفة فارغة، ساكنة، لكنها كانت مفاجأة… أثلجت صدره.

لقد قطعت كل صلة بها.

ثم وصله صوت هشام عبر الهاتف، بنبرة جازمة:
“سيد القيسي، لا تقلق. راجعت جميع شركات الطيران والقطارات والحافلات. لا أثر لها. بما أن السيد الهاشمي ما يزال تحت الحراسة، فمن المستبعد أن تكون قد غادرت المدينة.”

عندها فقط أدرك أحمد ما لم يكن يجرؤ على الاعتراف به:
لقد أبقى جاد حيًّا لأنه كان يعلم، ولو في أعماقه، أنه نقطة ضعف نوران. بإبقائه على قيد الحياة، احتفظ بها تحت سلطته.

قال بجمود:
“ابحث عنها. وأحضرها إليّ.”
“أمرٌ مفهوم.”

في تلك الليلة، كان أحمد مستلقيًا على سريره في غرفة النوم الرئيسية، حيث سبق وأن ناما منفصلَين. كانت الليالي بدونها خانقة، لكن وجودها إلى جانب جاد كان أكثر قسوة على قلبه.

هو يعلم ببراءتها. يعلم. ومع ذلك، لم يستطع تقبّل قربها من جاد. كانت سعادتها تذكّره بأخته التي فقدها، فيعصف به الألم.

كانت خطيئتها الوحيدة أنها وُلدت ابنةً لذلك الرجل.

كان يُكنّ لها حبًا ملتهبًا، وكراهيةً لا تُشفى، وكان يُفرغ حزنه وغضبه بوسائل لا تُغتفر.
وربما…
قد حان وقت العقوبة التالية.

الرواية كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 14

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top