رواية حتى بعد الموت الفصل الاول 1

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل الأول

في اليوم الذي تم فيه تشخيص نوران الهاشمي بسرطان المعدة، كان زوجها، أحمد القيسي، يعتني بأطفال حبيبته الأولى.

في ممر المستشفى، قال كريم نُصير بوجه متجهم وهو يحمل تقرير الخزعة:
“نوران، النتائج صدرت. إذا نجحت الجراحة، فإن معدل البقاء على قيد الحياة لمدة خمس سنوات لورم خبيث من الفئة 3A يتراوح بين 15 و30%.”

شدّت نوران حزام حقيبتها بأصابعها النحيلة. بدا وجهها الشاحب وعابسًا، وقالت بصوت خافت:
“كريم، كم من الوقت سيبقى لي إن لم أُجرِ الجراحة؟”

“من ستة أشهر إلى سنة. يختلف الأمر من شخص لآخر. في حالتك، يُفضّل الخضوع لجولتين من العلاج الكيميائي قبل الجراحة. هذا قد يساعد على منع انتشار الورم أو انتقاله إلى أعضاء أخرى.”

عضّت نوران شفتيها في محاولة لقول:
“شكرًا لك.”

ردّ كريم بسرعة:
“لا تشكريني. سأرتب لك دخول المستشفى فورًا.”

لكنها قاطعته قائلة:
“لا داعي لذلك. لا أنوي الخضوع للعلاج. لن أتمكن من تحمّله.”

أراد كريم أن يقول شيئًا، لكن نوران أومأت برأسها وطلبت:
“كريم، أرجوك، ساعدني في إبقاء هذا الأمر سرًا. لا أريد أن تقلق عائلتي.”

كانت عائلة الهاشمي مفلسة، وقد بذلت نوران كل ما في وسعها لتغطية نفقات علاج والدها، جاد الهاشمي. لو علموا بمرضها، لتفاقم الوضع أكثر.

تنهد كريم بعجز وقال:
“لا تقلقي، سألتزم الصمت. سمعت أنكِ متزوجة. زوجكِ—”

قاطعتْه:
“كريم، أرجوك، اعتنِ بأبي جيدًا. يجب أن أذهب الآن.”

بدت مترددة في الخوض بهذا الحديث، وغادرت بسرعة قبل أن يتمكن من الرد. هزّ كريم رأسه.

سرت شائعات بأنها تركت الجامعة وتزوجت. عبقرية الطب التي كانت تُبشّر بمستقبل واعد، انهارت من القمة إلى الحضيض.

طوال عامين من علاج والدها، كانت هي وحدها من تحمّل العبء. حتى عندما انهارت من التعب وأُرسلت إلى المستشفى بمساعدة المارة، لم يزرها زوجها قط.

في بداية زواجهما، كان أحمد يعاملها بلطف واهتمام. لكن كل شيء تغيّر حين عادت حبيبته الأولى حاملا إلى البلاد…

في إحدى الليالي القاتمة، سقطت نوران في الماء، حاملةً حياةً تنبض داخلها، إلى جانب مرام الزهراني، حبه الأول. وبين ارتباك اللحظة وصراع البقاء، شاهدته يسبح بكل ما يملك من قوة… نحو مرام. كانت تصرخ بصمت، لا لطلب النجدة، بل احتجاجًا على انكسارٍ آخر يُضاف إلى سلسلة خيباتها. وبينما تتقاذفها الأمواج ومشاعر الغيرة والخذلان، دخلت كل من نوران ومرام في مخاضٍ مبكر.

لكن نوران لم تُنقَذ في الوقت المناسب. وصلت إلى المستشفى متأخرة… متأخرة جدًا. وما إن أجريت الفحوص، حتى أعلن الطبيب الحقيقة القاسية: جنينها قد مات. داخل رحمها، سكنت أنفاس صغيرة لم تأتِ إلى العالم قط.

وبعد سبعة أيام من هذا الفقد، وبينما كانت تنزف من الداخل، تقدّم أحمد بطلب الطلاق. لم توافق. لم يكن الرفض بدافع الحب، بل لأنها لم ترد أن يُسلب منها كل شيء دفعةً واحدة.

حين تأكدت إصابتها بالمرض، لم يعد بإمكانها الإنكار أو الهروب. أمسكت بالهاتف بأصابع مرتعشة، وضغطت على رقمه. رنّ ثلاث مرات، ثم جاء صوته، باردًا كليلة فقدها:
“لن أراك إلا من أجل الطلاق.”

امتلأت عيناها بالدموع. أرادت أن تخبره بالحقيقة… عن مرضها، عن وحدتها، عن خسارتها. لكن قبل أن تنطق، سمعَت صوت مرام من خلفه:
“أحمد، حان وقت فحص الأطفال.”

في تلك اللحظة، انهار الجدار الذي بنتْه حول قلبها. رحل طفلها، تبعثرت حياتها، وتحوّلت هي إلى ظلّ. أما هو، فقد كوَّن عائلة جديدة.

رفعت رأسها، ومسحت دموعها بأكمامها وقالت، بصوت هادئ ولكنه متعب:
“أحمد… لننفصل.”

ساد الصمت للحظة. لم يكن يتوقع منها هذه الكلمات. ضحك ضحكة ساخرة وقال:
“نوران… ما هذه اللعبة الجديدة؟”

لكنها لم ترد. أغمضت عينيها وقالت:
“سأنتظرك في البيت.”

أنهت المكالمة بصعوبة، وكأنها تسحب خنجرًا من قلبها. ثم انهارت على الأرض، تستند إلى الحائط، غارقة في دموعها والمطر الذي غمر الممر.

في الجهة الأخرى، ظل أحمد يحدق في هاتفه، يفتّش في نبرتها عن شيء يبرر تغيّرها المفاجئ.
بعد عامٍ من الصمت والرفض، لماذا الآن؟ لماذا بهذا الحزن؟

وبينما المطر يهطل بغزارة، خرج أحمد من الجناح.
“إلى أين تذهب؟” سألته مرام وهي تقترب، حاملةً أطفالها. لكن ملامحها تبدّلت حين لاحظت نظراته المرتبكة.
نوران… لا تزال تفسد كل شيء.

كان قد مر وقتٌ طويل منذ أن وطأت قدماه منزل الزوجية. كان يتوقع أن تستقبله رائحة طعامها، وربما ابتسامتها. لكن الفيلا كانت مظلمة وصامتة كقبر.

حلّ المساء مبكرًا في هذا الخريف البارد. وعلى طاولة الطعام، وجد مزهريةً مملوءةً بأزهارٍ ذابلة. لم تكن نوران لتتركها على هذه الحال…
هل غابت عن المنزل مؤخرًا؟ أم أن شيئًا آخر يحدث؟

عندما فُتح الباب، دخلت نوران. كانت مبلّلة من رأسها حتى أخمص قدميها. التقت عيناها بعينيه. رجل يرتدي بدلة رسمية، بملامح جامدة وعيون مظلمة كأنها تحمل سنوات من العتب والخذلان.

نظر إليها وسأل بفتور:
“أين كنتِ؟”

رفعت رأسها ببطء. لم يكن في عينيها ذلك البريق القديم. فقط رماد التعب والخذلان.
“منذ متى وأنت تهتم؟” ردّت بصوتٍ خافت.

ضحك بسخرية وقال:
“لو حدث لكِ شيء، فلن تتمكني من توقيع الأوراق.”

كلماته كانت كالإبر، تدمي قلبها دون أن تُظهر الألم. تقدّمت نحوه بخطى بطيئة، وسحبت مظروفًا من حقيبتها. أخرجت منه الأوراق، وضعتها على الطاولة بصمت، ثم نظرت إليه نظرة امرأة لم يعد بها شيء لتخسره.

“لا تقلق… لقد وقّعت عليها بالفعل”، قالتها نوران بنبرة هادئة، خالية من الانفعال.

وضعت الوثيقة على طاولة الطعام برفق، لكن وقعها في أذني أحمد كان أشدّ من صوت الرعد.
لم يكن يتخيّل أن كلمة “طلاق” ستؤلمه بهذا الشكل يومًا، رغم أنه هو من طلبها.

رفع الورقة بعينين متجمدتين، وما إن لمح بند النفقة حتى انعقد حاجباه.
عشرة ملايين دولار.
رقم واحد، وجملة قصيرة، قلبت المعادلة كلها.

ضحك بسخرية وعلّق بتهكم:
“كنت أتساءل لماذا وافقتِ فجأة… اتضح أن المال هو السبب. لا شيء يفاجئني بعد الآن.”
كانت كلماته كطعنة باردة، وتعبير وجهه الممتلئ بالسخط يسكب الزيت فوق رماد قلبها المتعب.

نوران القديمة، تلك التي كانت تتوسل وتشرح وتبكي، ربما كانت لتدافع عن نفسها الآن.
لكن هذه النسخة… هذه المرأة الواقفة أمامه بصمت، لم تعد تملك طاقة للشرح.

رفعت رأسها ونظرت إليه بثبات، وقالت دون ارتعاش:
“كنت أستطيع، قانونًا، أن أحصل على نصف ثروتك، يا سيد القيسي… لكنني طلبت فقط عشرة ملايين. لا لشيء، سوى لأنني ما زلت كريمة حتى في خروجي.”

تقدّم بخطوات بطيئة، يجرّ خلفه ظله الطويل الذي ارتسم على أرضية الفيلا، حتى وقف أمامها مباشرة. رفع ذقنها بأصابعه النحيلة، وألقى عليها نظرة باردة كصقيع كانون.

“بماذا ناديتني؟” سألها بنبرة مهددة.

أجابت، بنبرة تزداد برودة:
“سيد القيسي. وإن لم يعجبك هذا اللقب، يمكنني مناداتك بـ… زوجي السابق. لا فارق لدي. فقط، رجاءً، لا تنسَ توقيع الأوراق قبل أن تغادر.”

أحرقته لهجتها المتغطرسة التي لم يعرفها فيها من قبل. لم يملك نفسه فقال بغضب:
“هذا بيتي، نوران. من أعطاكِ الحق في أن تطرديني منه؟”

ابتسمت، لكنها لم تبتسم بفرح. كان في ابتسامتها شيء ساخر، وكأنها تشيّعه لا تجادله.

“بالطبع ليس لي الحق… لا تقلق، يا سيد القيسي. سأرحل من هذا المنزل فور استلامي شهادة الطلاق. لن أظل فيه دقيقة واحدة بعدها.”

ثم صفعت يده التي كانت ما تزال تمسك بذقنها، وأزاحتها جانبًا. نظرت إليه مباشرة، من عين لعينيه، كأنها تلقي عليه الحكم الأخير، وقالت ببرودٍ محكم:

“سيد القيسي… غدًا، الساعة التاسعة صباحًا، في مبنى البلدية. أحضر وثائقك. أراك هناك.”

رواية حتى بعد الموت الفصل 2

3 أفكار عن “رواية حتى بعد الموت الفصل الاول 1”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top