الفصل 21
مرّ زمنٌ طويل… طويل كأنه عُمرٌ بأكمله، كأن حياةً كاملة انطوت بين تلك اللحظة واليوم.
ولأول مرة منذ ذلك الانفصال العاصف، ناداها بصوتٍ خافت، متردد، مكسور:
“عزيزتي.”
تجمّدت نوران في مكانها.
لم تصدق ما سمعت.
الكلمة خرجت من فمه، نعم… لكن بدا كأنها تعود لرجل آخر، غريب يرتدي ملامحه، يقلّد صوته، لكنه ليس هو.
ارتبك قلبها، واضطربت ذاكرتها كأنها تعرضت لصفعةٍ خفية، فتساقطت فجأة كل اللحظات القديمة، كأنها حجارة تنهار من جرفٍ عالٍ…
حنين ومرارة، حب وخيانة، دفء واحتراق.
جلست بصمت، كأن الهواء قد أثقل صدرها فجأة، وكأن الأرض لم تعد مألوفة تحت قدميها.
نظرت إليه بذهول… كأنها تسأله دون صوت:
“كيف تجرأت؟”
ذاك النداء… “عزيزتي”، كان قد دُفن معها يوم خرجت من حياته.
كان يجب أن يُمحى، أن يُنسى، أن يُدفن دون رجعة.
لكنه عاد الآن، يدق بابها بصوتٍ مشوّه، كأن شيئًا لم يحدث.
كأن الدموع لم تُذرف، كأن القلب لم يُكسر، كأنها لم تُطرَد ذات مساء من عالمه دون وداع.
كان صوته متغيّرًا… غائمًا، أشبه برجلٍ يهرب من اعتراف.
عيناه متعبة، وملامحه مضطربة.
كأنّه لا يتحدث من وعيه الكامل… كأنّ شيئًا في داخله مختل، مشوش، يتكلم نيابة عنه.
حدّق فيها طويلًا، ثم قال بنبرة متهدّجة، كأن الكلمات تسقط من فمه لا تخرج:
“أين ذهبتِ؟ أقسم أنني بحثتُ عنكِ في كل مكان.”
أغمضت نوران عينيها للحظة.
حاولت أن تضبط نفسها، أن تُغلق أبواب الألم قبل أن تنفجر، لكن الدموع تسللت بلا استئذان.
كم من مرة بكت وحدها؟
كم من مرة أعادت الحكاية في رأسها، تمزقها وتعيد خياطتها، ثم تنزف من جديد؟
قالت بصوتٍ مخنوق:
“وألم تكن أنت من دفعني بعيدًا؟
من أغلق كل الأبواب في وجهي؟ من جعلني أرتجف في عتمتي وحدي؟”
نظر إليها، وكان في عينيه ضياع.
ضياع من لا يعرف كيف فقد كل شيء، ولا يملك الشجاعة ليعترف أنه السبب.
قال بصوتٍ مرتجف:
“كلام عابر… لحظة غضب، لا أكثر.
لم أقصده، واللهِ لم أقصده.
أنتِ… أنتِ كل ما تبقّى لي.”
هزّت رأسها، بيأسٍ متعب كأنها سئمت تفسير الألم.
ثم همست بصوت أشبه بأنين:
“لا، ما تبقّى أمامك ليس أنا.
هذه مجرد ظلال.
امرأة لا تشبه من كانت تحبك يومًا.”
ساد صمت كثيف، كأن اللحظة نفسها تخجل من البقاء.
وكان الضوء الخافت يتسلّل من خلف الستائر الثقيلة، ينعكس على وجهها ويكشف وهجًا من دمعٍ مختلط بالخذلان، وملامح امرأة تعبت من حمل الذكريات وحدها.
سألها بصوت منخفض:
“هل كنتِ نائمة؟ أزعجتكِ؟”
أجابت دون أن ترفع رأسها:
“لا النوم زارني، ولا السكون عرف طريقه إليّ.”
نظر إليها طويلًا، وكأنه يريد أن يقول شيئًا، لكن الكلمات تخونه.
ثم قال بصوتٍ مكسور، أقرب إلى الرجاء منه إلى العتاب:
“لا تبكي، أرجوكِ… لن أسمح لأحدٍ أن يؤذيكِ بعد الآن.
لن أتركك.”
تشنّج وجهها.
هل يُصدّق الإنسان من كان ذات يوم سببًا في وجعه حين يعده بالحماية؟
هل تكفي نبرة نادمة لمحو سنوات من الانهيار؟
قالت ببطء، كأنها تنتزع كل كلمة من قلبٍ أنهكه الألم:
“أحمد…
ماذا لو مُتُّ؟
ماذا ستفعل؟”
اتسعت عيناه، وشحب وجهه، ثم تمتم وكأنه لم يسمع جيدًا:
“تموتين؟… لماذا تقولين هذا؟”
نظرت إليه نظرة طويلة، ثم قالت:
“لأن الموت لا يُعلن موعده.
يأتي كما يشاء، في أكثر اللحظات هدوءًا أو أكثرها ضجيجًا.
وأنا… لا أشعر أنني بعيدة عنه.”
ظل صامتًا، وعيناه تبحثان عن مهرب.
ثم قال، بصوتٍ منطفئ، كأن الحياة انسحبت منه فجأة:
“سأموت معك.
سنرحل سويًا.
سأطلب أن أُدفن بجانبك…
في نفس المكان، تحت نفس التراب.”
ابتسمت نوران بسخرية موجعة، وقالت:
“لا تقل هذا…
أنت ستعود لحياتك، ستحزن قليلًا، ثم تُكمل.
ربما تحب غيري… ربما تحتفل بعيد ميلادك مع أخرى، وتضحك من قلبك.”
ضاقت عيناه، وظهر في وجهه انكسار مفاجئ، ثم قال بسرعة، وكأنه يحاول التمسك بشيء يتفلت من يده:
“لا! لا أحد بعدك.
قلبي لا يعرف سوى اسمك.
ألا تشعرين به؟
إن رحلتِ… سيتوقف.”
نظرت إليه… كان صادقًا، نعم.
لكنها لم تعد تملك القدرة على الإيمان.
الثقة حين تُكسر لا تعود كما كانت.
قالت وهي تُشيح بوجهها:
“القلب لا يكفي…
حين يخوننا صاحبه.”
ظلّ صامتًا، يتنفس بثقل، ثم قال فجأة، بصوتٍ متشظٍ، عالق بين الحلم والندم:
“نوران… فلنبدأ من جديد.
دعينا نخلق حياة مختلفة…
أسرة… طفل، ربما.”
طفل؟
توقّف الزمن.
توسّعت عيناها بدهشة وانكسار، كأن الكلمة سقطت على قلبها كالصاعقة.
جسدها ارتجف.
شيء في أعماقها انفجر.
هل قال حقًا “طفل”؟
هو لا يعلم… أنه فتح الباب الذي ظلّت سنوات تحاول أن تُغلقه.
لكنها نظرت إليه جيدًا…
ملامحه، نبرة صوته، تشوشه… كان واضحًا أنه ليس في وعيه الكامل..
عينيه ضبابيتان، كلامه متداخل، كأن شيئًا أثقل على رأسه وأربك تركيزه.
لم يكن مدركًا ما يقول.
لكن الكلمة خرجت.
وسمّمت الهواء.
انهمرت دموعها دون صوت.
لقد قضت سنوات تبكي من الداخل، سنوات تبني جدارًا حول ذاك الألم الدفين،
لكن كلمة واحدة منه… هدمته.
هو لا يعرف… ولن يعرف…
أن فكرة “الطفل” لم تعد حلمًا، بل شاهد قبر.
أنها ما زالت تسمع صرخة لم تصدر، وتحتضن حفنة من الذكرى لم تتجسد.
ارتعشت أطرافها، فغطّت وجهها بكفّيها، وانفجرت شهقاتها:
“لا تقل ذلك… أرجوك… لا تفتح هذا الباب.
ليس الآن… ليس بعد كل هذا.”
رآها تنهار أمامه، كأنها تنفجر من الداخل، فانكسر صوته، وقال بيأس:
“نوران… لا تبكي، أرجوك.
لا أحتمل رؤيتك هكذا.
كل ما أريده… هو أن تكوني بخير.”
كانت تهمس باسمه، بين شهقة وأخرى، كأنها تودّعه دون أن تقول ذلك صراحة:
“أحمد… أحمد…”
رواية حتى بعد الموت الفصل 21
