رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 272

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 272 

على الرغم من أن عصابة سميكة كانت تغطي عينيها وتحجب عنها كل شيء، فإن مارينا استطاعت أن تشعر بثقل نظرات مئات الأشخاص الموجهة نحوها، وكأنها تُسمر في مكانها تحت أضواء مسرح قاسٍ. ارتجف جسدها، واندفعت الكلمات من فمها كطلقات متقطعة:
– “إيثان! أبي! ساعدني! أرجوك أنقذني! لا أريد أن أموت!”

كان صوتها مشوبًا بالهلع، يمتزج فيه البكاء مع الخۏف الخام، وارتد صدى صړختها عبر مكبرات الصوت، ليغرس في قلوب الحاضرين إحساسًا بالعجز والصدمة.

أما أوليفيا، التي كانت معلقة إلى جوارها، فلم تكن في حال تسمح لها بالصړاخ أو الاستنجاد. معدتها كانت تعصف بها منذ ساعات الصباح، لم تتناول شيئًا، والبرد الذي جلبه نسيم المحيط كان يلسع جلدها المبلل بالعرق. كان جبينها لامعًا تحت ضوء الشمس، وشفاهها جافة كالصحراء. حتى لو أرادت الصړاخ، فإن ضيق الحبل الملتف حول خصرها كان يسلبها القدرة على التنفس الكامل.

كانت تدرك أن فرص نجاتها ضئيلة، وأن أي استغاثة لن تغير شيئًا. لقد عاشَت هذه الحقيقة منذ عام، حين اختار إيثان مارينا على مرأى منها، وأدركت حينها أن قلبه لن يتغير. لم يكن في الأمر خيبة أمل… لأن الأمل لم يكن موجودًا من الأساس.

وبينما كانت غارقة في أفكارها السوداوية، سمعت أصواتًا تقترب، ضوضاء متقطعة تأتي من جهة الجمهور الذي يُبث له المشهد. كان الصوت الأوضح بينها هو بكاء امرأة.
– “مارينا! أوليفيا! هل أنتما بخير؟”

تعرّفت أوليفيا على الصوت على الفور، رغم أنها لم ترَ صاحبه. كان صوت كلوي، مشحونًا برجفة القلق، وكأنه يحاول التماسك.

رفرفت جفون أوليفيا ببطء تحت العصابة التي تحجب عينيها، كما لو أنها تحاول النظر إلى مصدر الصوت. أما مارينا، فقد زاد صوت أمها من انكسارها، فاندفعت تصرخ بحړقة:
– “أمي! أرجوكِ أنقذيني!”

كانت تلك الكلمات كطعڼة في قلب كلوي. تمالكت نفسها وقالت بلهجة حاولت أن تجعلها مطمئنة:
– “لا تقلقي يا مارينا، والدك سيُخرجك من هذا المأزق.”

في هذه اللحظة، كان الألم في معدة أوليفيا يشتد، يضغط على ضلوعها من الداخل. عضّت على شفتيها المتشققتين، ثم لعقتهما لتخفيف الجفاف، لكن الألم ظل يطحنها. لم تنطق بكلمة، فطاقتها بالكاد تكفي للبقاء واقفة.

ومع ذلك، كان في داخلها شعور آخر يضغط أكثر من الحبل أو الألم… القلق من اختيار كلوي. كانت تعرف أن هذه المرأة هي أم مارينا، بينما لم تكن هي سوى ابنة الزوج السابقة، التي عاشت على هامش الأسرة لسنوات. كانت منطقية الإجابة مؤلمة: بالطبع ستختار كلوي ابنتها البيولوجية، أليس كذلك؟

لكن رغم وضوح الإجابة، ظلت أوليفيا تنتظر، كما ينتظر طالب مړعوپ نتيجة امتحان مصيري، قلبها يتأرجح بين الخۏف والرغبة في التمسك ببصيص أمل.

جاء صوت كلوي هذه المرة أكثر رجفة، ممزوجًا برجاء يائس:
– “أرجوكِ… أرجوكِ أطلقي سراح بناتي. لم يؤذيكِ أحد منهما أبدًا. إذا كان المال هو ما تريدينه، حددي المبلغ… أي مبلغ تريدينه سنعطيكِ إياه. أي شيء… فقط لا تؤذيهما.”

كان صوتها حزينًا إلى حدٍ جعل أوليفيا تشعر بانقباض في قلبها، على الرغم من كل شيء. كانت تعرف أن كلوي لم تعش أيامًا صعبة في حياتها، وأن هذه المواجهة غير المسبوقة جعلتها في مواجهة خوف لم تختبره من قبل. وكانت تعرف أيضًا بمرض قلبها، ما جعلها تخشى أن ينهار جسدها في أي لحظة.

الغريب أن أوليفيا، في تلك اللحظة الحرجة، وجدت نفسها تفكر في كلوي وحدها، لا في إيثان أو في نفسها.

بعد لحظات صمت ثقيلة، تكلّم إيثان أخيرًا، صوته منخفض لكنه حاد:
– “ماذا تريد؟”

في داخله، كان التردد ينهش أعصابه. كان يخشى أن يكون من اختطفوا مارينا وأوليفيا هم ذاتهم الذين ظلوا يطاردونه في الظل، أصحاب الأسلوب الدموي الذي يعرفه جيدًا.

لو كان الأمر كذلك، فهو يعرف تمامًا ما ينتظر الضحايا: مۏت ۏحشي لا رحمة فيه، وربما أمام الكاميرات، كما اعتاد هؤلاء أن يفعلوا؛ إذ كانوا يتلذذون بإذلال ضحاياهم، تعذيبهم، وتمزيقهم علنًا.

إيثان الذي مرّ على جسده وعقله من المحڼ ما يكفي لتهشيم أي إنسان، والذي صقلته سنوات من المواجهة والخطړ حتى صار كالفولاذ، وجد أصابعه ترتجف الآن بلا إرادة. لقد رأى جثثًا كثيرة، وكان مستعدًا لملاقاة المۏت بنفسه، لكن فكرة أن يمر أحباؤه بهذا المصير جعلت الډم يجمد في عروقه.

سنوات طويلة قضاها وهو يحاول ډفن ماضيه المظلم، محو أي أثر له، لكن الآن بدا أن ذلك الماضي يطل من جديد، وأن السر الذي أخفاه بعناية قد انكشف.

مرّت في ذهنه صورة ذلك اليوم الذي ذهب فيه إلى الجزيرة لإنقاذ أوليفيا وكونور، وسأل نفسه ما إذا كانت تلك المهمة قد لفتت أنظار هؤلاء القتلة إليه. لكن التفكير لم يعد يجدي، فما يهم الآن هو إنقاذهما.

كان كل من في القاعة يراقب رد فعله، والذعر مرسوم على وجوههم. لكنهم رأوه واقفًا شامخًا، يداه خلف ظهره، وصوته ثابت وهو يقول ببرود متعمد:
– “دعهم يذهبون… وستُلبى مطالبك.”

جميع الفصول من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top