الفصل 276
تجمّد الجو للحظة، وكأن الأنفاس في القاعة توقفت. العيون كلها اتجهت نحو إيثان، تتفحّص ملامحه بحثًا عن أي إشارة قد تفضح قراره. الشخص الذي ألقى السؤال كان واقفًا بثقة، بينما مارينا ما زالت تصرخ وتستغيث، تحاول التشبث بأي خيط أمل.
قال أوتو ببرود، وعيناه تلمعان كمن يعرف النهاية مسبقًا:
– “لا داعي للتردد. أخبرها أنك اخترت مارينا.”
مدّ كريس يده، وربت بخفة على كتف إيثان، وكأنه يحاول أن يخفف عن كاهله العبء الذي يحمله:
– “اتخذ قرارك بنفسك. أياً كان اختيارك، لن ألومك.”
ثم تحرك الشخص الذي يرتدي زي الباندا إلى منتصف المشهد، رافعًا بين يديه ساعة رملية ضخمة. صوت الحصى الناعم وهو يتساقط داخلها كان كنبضات قلب تُعدّ ثواني النهاية.
– “لديك دقيقة واحدة فقط لتختار. إذا انتهى الوقت دون أن تنطق… فسأختار أنا بالنيابة عنك.”
تساقطت الرمال بسرعة مقلقة، وكأنها تسابق أنفاس الجميع. بدأ الوقت يمضي، والضغط يتصاعد.
إيثان ظل صامتًا، يحدّق في المرأتين بهدوء قاټل. مارينا كانت ترتجف، تبكي، وتصرخ طلبًا للنجدة، أما أوليفيا فجلست في سكون تام، عيناها شبه مغمضتين، ملامحها جامدة. حزّ في نفسه أن أوليفيا لم تقل له شيئًا… لم تطلب، لم تتوسل. على الأقل حين وُجه السؤال إلى كلوي، تجرأت أوليفيا على كسر صمتها، أما الآن، فبدت كأنها أغلقت أبواب قلبها نهائيًا.
عقله ارتد فجأة إلى شتاء العام الماضي… ليلة كانت الثلوج فيها تهطل بكثافة، والبرد يلسع الوجوه حتى يجمّدها. في تلك الليلة، سقط هو وأوليفيا في مياه المحيط المظلمة. أول ما خطړ في باله كان كورت، الرجل الذي ضحى بنفسه لينقذه. كورت الذي كانت مارينا حينها تحمل طفله في أحشائها.
رأى المشهد كما لو أنه يحدث أمامه مجددًا: برنت يقفز خلفهم إلى الماء، الثقة التي شعر بها إيثان في أن برنت سيصل إلى أوليفيا جعلته يسبح نحو مارينا. لم يتوقع أبداً أن ساق أوليفيا ستعلق في شبكة صيد، وأن دقائق معدودة من التأخير ستسرق منها جنينها. تلك المأساة، كغيرها، أصبحت شبحًا يطارده في كل لحظة يقف أمام مفترق طرق.
لم تتح له الفرصة وقتها ليخبر أوليفيا بشيء ظل يحمله في قلبه: أنها كانت تعني له أكثر مما ظنت يومًا.
لكن اليوم مختلف… اليوم، لا توجد خطة إنقاذ، ولا قارب نجاة، ولا شبكة منقذين في الظل. أي خيار سيتخذه الآن سيكون حاسمًا ونهائيًا.
وعندما أغمض عينيه، عاد إلى صورة كورت وهو ېنزف، يبتسم رغم الألم:
– “لا… لا تبكِ. على الجنرال أن ينجو. أنا اخترت المۏت من أجلك. أرجوك… اعتنِ بزوجتي وطفلي.”
تذكر كيف سقطت يد كورت بلا حراك بعدها. كورت لم يكن مجرد قريب، بل كان شقيقًا لم تلده أمه، رفيق طفولته، وظله في المعارك، والوحيد الذي تقاسمه الډم والولاء.
ومنذ ذلك اليوم، حمل إيثان على عاتقه وعدًا ثقيلًا: حماية مارينا مهما كان الثمن، حتى وهو يتحمل غطرستها وقسۏتها. تحمل حين أخذت مارينا كل ما كان ملكًا لأوليفيا: الفساتين، الفيلا، المستشفى، وحتى لقب “السيدة ميلر”. كان ينظر إلى الاتجاه الآخر كل مرة، لأن وعده لكورت كان يقيّده.
لكن الآن… الوضع مختلف. حياتان على المحك. وعد من جهة، وحب حياته من الجهة الأخرى.
مارينا، وقد لاحظت طول صمته، صړخت بلهفة يائسة:
– “إيثان! لا تنسَ وعدك! قلتَ إنك ستحميني دائمًا!”
أما أوليفيا، فكانت أكثر هدوءًا من أي وقت مضى. لم تقل شيئًا، لم تحاول أن تقنعه. بدا وكأنها فقدت أي رغبة في النجاة. أفضل المۏت بكرامة على أن أمد يدي متوسلة مرة أخرى… مرة كانت كافية.
سقطت آخر حبات الرمل في الساعة، وصوتها كصڤعة على مسامع الجميع. قال صاحب زي الباندا بنبرة مرحة مستفزة:
– “انتهى الوقت يا سيد ميلر… لنسمع قرارك.”
وقف إيثان ببطء، يده خلف ظهره، ووجهه بلا أي تعبير يمكن قراءته. كان الصمت الذي تلا وقوفه ثقيلاً لدرجة أن أنفاس الحاضرين أصبحت مسموعة.
ثم جاء صوته ثابتًا، لكن كلماته كانت كالقنبلة التي فجرت المشهد:
– “حياتي لهم.”
ارتجفت الأجواء في القاعة. لم يختر بينهما كما فعلت كلوي، بل أعلن بوضوح أنه سينقذ الاثنتين، ولو كان الثمن حياته.
رفع رأسه نحو صاحب زي الباندا، وقال بنبرة لا تعرف المساومة:
– “أنا أموت… وهما تعيشان. ما رأيك في هذه الصفقة؟”