الفصل 25
انغمست نوران في قراءة محتويات الوثيقة، تلتهم الكلمات بنهم وذعر، وكأنها تقرأ نهاية قصة كتبت عنها دون علمها. لم تلاحظ وقع الأقدام في الممر، ولم تستوعب دخول أحمد حتى تجسّد صوته المباغت كصفعة على عنقها:
“هل تخلّيتِ عن التظاهر باللطف؟ هل تلجئين إلى السرقة الآن؟”
شهقت. فزّت كأن صاعقًا ضربها. سقط الملف من بين يديها، وتناثرت الأوراق على الأرض كما لو أنها تعرّت أمامه تمامًا.
لماذا عاد باكرًا؟ لقد اعتادت على غيابه الطويل، على عودته المتأخرة حين يكون التعب قد أنهكها. أما الآن، فقد بدا حضوره ثقيلًا، مفاجئًا، كحكمٍ نُفّذ قبل صدوره.
لم تجرؤ على الانحناء لجمع الأوراق. اكتفت بأن حدّقت به، وجهها شاحب كمن ضُبط في جريمة. قالت بتعبير جامد، دون أن تعرف إن كانت تهزأ أم تعتذر:
“لقد عدتَ.”
كان أحمد يقف هناك، بقامته الطويلة، مرتديًا بدلة داكنة أنيقة وربطة عنق باهظة. بدا كأنه خرج للتو من اجتماع مغلق أو جنازة رسمية. عندما وقعت نظراته الباردة عليها، شعرت نوران كما لو أنها حُبست فجأة في قبو جليدي، لا نوافذ فيه ولا هواء.
تقدّم نحوها بخطوات واسعة، يخلع سترته ببطء مدروس. كل حركة فيه كانت محسوبة، توحي بالتحكم الكامل، وكأن جسده لا يتحرّك إلا وفق جدول صارم.
رغم أن ما فعله كان عاديًا — فقط يخلع ملابسه — إلا أن نوران شعرت برعب حقيقي يتسلّل إليها. أرادت أن تهرب، أن تختفي، أن تصرخ، لكنها لم تستطع حتى أن تحرك قدميها.
لسنوات طويلة، كانت تُنكر ما يُقال عن ماضي أحمد. كانت تُغطي على وحشيته بادعاءات الحُب والغيرة والخوف من الفقد. أما الآن، فقد رأت تلك القسوة بعينها، كما يراها الآخرون تمامًا. أخيرًا، فهمت لماذا يخافه الجميع.
كان يتقدّم، وهي تتراجع، خطوة مقابل خطوة. حتى التصقت بالخزنة، وانحنى هو قليلًا أمامها. لم يكن بينهما سوى مسافة الأنفاس.
قال بصوت منخفض جدًا، أشد فتكًا من الصراخ:
“هل رأيتِه؟”
لم تستطع نوران قراءة ملامحه. كانت جامدة، هادئة إلى حدٍ مُخيف. لكنها تعرفه. تعرف أنه كلما ازداد غضبه، خفت صوته. عيناه كانتا مثل بركٍ داكنة، تخفي تحتها كل شيء… وربما جثة.
بلعت ريقها، وهزّت رأسها.
“قرأت جزءًا… فقط من التقرير.”
مدّ يده ورفع ذقنها برفق مصطنع، ليجبرها على النظر في عينيه. لم تستطع التراجع أكثر.
قال بصوت مثقل بالألم والغضب المكبوت:
“هل تعلمين لماذا لم أرغب في ذلك الطفل؟”
كادت تنكر، ثم همست:
“بسبب جودي.”
ارتعشت يداها، وتذكرت السطر الذي قرأته:
الوفاة لم تكن بسبب الغرق، بل بسبب الخنق قبل الإلقاء في الماء.
وتفاصيل أخرى: جودي كانت حاملًا في شهرها الثالث. وإن كانت علاقتها بجاد حقيقية، فالجنين على الأرجح كان ابنه.
لم يكن تقريرًا عاديًا. كان قنبلة.
مرر أحمد إصبعه على شفتيها المشدودتين، وهمس في أذنها:
“راجعتُ تسجيلات المراقبة في قسم النساء والولادة… المكان الذي كانت تُتابع فيه ليا حالتها الصحية. وكان جاد هناك في اليوم نفسه.”
شهقت نوران بحدة، وقالت دون تفكير:
“والداي انفصلا منذ سنين طويلة. من الطبيعي أن تكون له احتياجات… حتى لو كانت بينه وبينها علاقة، فهو لم يكن يومًا رجلاً مؤذيًا. عاملها بلطف… ولم يكن ليقتلها.”
تجمّدت الكلمات في فمها وهي تنظر إلى عيني أحمد. كانت تتوسل إليه، لا لتصدّق روايتها، بل لتتراجع يداه عن الغوص أعمق في طين الشك.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة باردة، كأنها شقّ في جدار حديدي. لأول مرة منذ زمن بعيد، فتح الحديث عن موت ليا، الموضوع الذي كان دائمًا خطًا أحمر بينهما.
قال بهدوء ساخر:
“أنتِ ترين جاد رجلًا طيبًا فقط لأنه والدك. لكنه يُخفي أكثر مما يُظهر. لا شيء في هذا العالم أبيض تمامًا أو أسود تمامًا. لا أحد طاهر كما تعتقدين. كلنا ملوثون… بدرجات مختلفة.”
ثم أضاف، دون أن يرفع صوته:
“وهذا ما يصعب عليكِ فهمه دومًا.”
رواية حتى بعد الموت الفصل 25
