الفصل 289
كانت أشعة الشمس الذهبية تتسلّل إلى فناء منزل موريارتي، تنسج خيوطها الدافئة فوق العشب الأخضر المبتل بقطرات الندى.
استلقت أوليفيا على مقعد خشبي منخفض، وسنوبول بين ذراعيها، جسده الدافئ ينبض تحت كفيها، وصوت خرخرته يتسلّل إلى أذنها كأنّه لحنٌ هادئ يحاول طمأنتها.
هبّت نسمة عليلة حركت شعرها المنسدل، فتناثرت بعض أوراق الكرز الوردية في الهواء قبل أن تتهادى إلى الأرض، وكأنها رقصة وداع بطيئة.
ركضت ثلاث قطط بيضاء صغيرة في الفناء، تتقافز بخفة وتلاحق بعضها، فتحدث ضجة ناعمة بوقع أقدامها على بلاط الحديقة.
كان المشهد أشبه بلوحة سلام، لكن قلب أوليفيا لم يعرف السکينة.
كلّ شيء في داخلها كان مقيّدًا بالقلق، يخنق أنفاسها كلما تذكّرت ما يجري خارج هذه الأسوار.
خبر اختفائها اجتاح الإنترنت كالڼار في الهشيم.
الناس يتسابقون لتوجيه أصابع الاتهام نحو مارينا، يصفونها بمدمرة البيوت، ويصبّون غضبهم على كلوي، متهمين إياها ببيع ابنتها مقابل المال.
ومع أن عائلة كارلتون أنفقت مبالغ طائلة لمسح تلك المقالات، فإن كل خبر يختفي يولد مكانه خبر آخر، أشد قسۏة وأكثر انتشارًا.
الغريب أن بياناتها الشخصية كانت محفوظة بإحكام، وكأن يدًا خفية تحيطها بجدار حماية لا يُخترق.
لكنها لم تشعر بأي انتصار وهي ترى مارينا تُهان علنًا؛ فهي تدرك أن الخسارة هذه المرة لم تكن من نصيب طرف واحد… كلاهما دفع الثمن.
الشيء الذي يأكل تفكيرها كان أبعد من تلك الفضائح الإعلامية.
كان عن جيف… وعن جاك.
جيف ظهر فجأة أمام الناس، لكن جاك؟ لا أثر له.
حدسها يهمس أن اختفاءه ليس عابرًا—إما أنه وقع في مأزقٍ ممېت… أو أن حياته انتهت بالفعل.
“أوليفيا، هل هناك ما يشغلكِ؟” جاء صوت كولين من خلفها، عميقًا وواثقًا، لكنه مشوب بلمحة قلق.
رمشت وأدارت رأسها ببطء. “أبي… أخشى أنه إذا اكتشفوا أنني ما زلت على قيد الحياة، فسوف يؤذونه.”
اقترب منها بخطوات هادئة، وفي يده طبقٌ من الفاكهة الطازجة.
انخفض على ركبته أمامها، وقدّم لها فراولة حمراء ناعمة، يرفعها قرب شفتيها وكأنها أثمن هدية في العالم.
لم تلاحظ أنه في تلك اللحظة تخلّى عن كبرياءٍ لطالما تمسّك به؛ هو نفسه لم يعد يهتم بذلك، كل ما يريده أن يراها مرتاحة، مطمئنة.
“إن كان هذا ما يقلقكِ، فيمكنني نقله إلى مكان آمن. مكان لن يجرؤ أحد على الاقتراب منه.”
تسارعت أنفاسها قليلًا، وعيناها التمعتا بأملٍ مفاجئ. “حقًا؟ ألن يكون الأمر صعبًا بالنسبة لك؟”
ابتسم ابتسامة واسعة، لكنها لم تكن مجرد ابتسامة مجاملة، بل ابتسامة رجل يشعر بالفخر لأنه يستطيع أن يفعل شيئًا من أجلها.
“بالنسبة لي… هذا شرف. ولن يكون صعبًا.”
لكن نظرته تغيّرت قليلًا حين أضاف: “مع ذلك، الأشخاص الذين تجرأوا على اختطافك ليسوا من النوع العادي. وهذا يعني أنني سأحتاج إلى رجال ليسوا عاديين أيضًا.”
ارتسمت على وجهها مسحة حذر. “لقد استأجرت بعض الحراس في المستشفى تحسّبًا لأي طارئ.”
أجاب بثقة، وصوته يحمل وعدًا غير منطوق: “اتركي الأمر لي يا أوليفيا… ثقي بي.”
ثم مال برأسه قليلًا وكأنه تذكّر شيئًا مهمًا. “هناك أمر آخر… أظنك يجب أن تعرفيه.”
“ماذا هناك؟”
وضع طبق الفاكهة جانبًا، فجذبت رائحته القطط التي اقتربت متطفلة.
أبعد اثنتين منها بيده، ثم أخرج هاتفه وقدّمه لها.
“اقرئي بنفسك.”
انخفضت عيناها إلى الشاشة، وبمجرد أن قرأت الكلمات، تجمّد وجهها وتصلّبت أنفاسها. “هل هذا صحيح؟”
أومأ برأسه ببطء. “المقال نشرته عائلة كارلتون… وهذا يعني أنه على الأرجح حقيقي. السيد كارلتون يبحث عن نخاع عظم متوافق لها.”
سكت لحظة، ثم نظر إليها بعمق، وكأنه يريد أن يرى رد فعلها قبل أن يكمل: “ما رأيكِ في هذا؟”
أغلقت الشاشة بهدوء وأعادت الهاتف إليه، وصوتها بارد كحافة سکين. “لقد أنهيت حساباتي معهم منذ زمن. لا أدين لها بشيء بعد الآن.”
فكّرت للحظة، ثم أضافت بسخرية مريرة: “أليست لديهم ابنة أخرى؟ يمكنهم طلبه من مارينا.”
لكن في مكانٍ ما داخل عقل كولين، كان يتساءل: وماذا لو كان نخاع عظم مارينا غير متوافق، بينما نخاع عظمك أنتِ هو الأنسب؟
لم تكن تدرك هذا الصراع الصامت في عينيه، لكنها قالت بحزم لا يقبل الجدال: “لن أذهب.”
لقد حلمت لسنوات طويلة بأملٍ لم يتحقق، ولن تعود لتلك الدوامة من جديد، خاصة وهي بالكاد تتمسك بصحتها.
مدّت يدها تداعب رأس سنوبول، الذي أرخى أذنيه وأغمض عينيه بنعاس، خرخرته الخاڤتة تتناغم مع هدوء المكان.
خفضت أوليفيا نظرها وتمتمت: “كل ما أريده الآن هو أن أعيش ما تبقى لي من أيام وأنا أعتني بوالدي.”
لكن في قلبها كان هناك أمنية أخرى… أن تبرّئ اسم جيف، وأن تعرف الحقيقة الكاملة عمّا جرى.
حين استوعب كولين قرارها، لم يُبدِ اعتراضًا، لكنه انحنى قليلًا للأمام، وصوته انخفض إلى نبرة غامضة:
“أوليفيا… إذا لم تخن ذاكرتي، فأنتِ كنتِ تبحثين عن ليو، أليس كذلك؟”
رفعت رأسها نحوه بسرعة، نظرتها تمزج بين الحذر والفضول.
ابتسم ابتسامة هادئة، وكلماته سقطت عليها كشرارة مفاجئة:
“ماذا لو قلتُ إنني أستطيع أن أجده لكِ؟”



