الفصل 294
كان الليل قد أحكم ستاره على السماء، والنجوم اختبأت خلف الغيوم الرمادية. داخل الغرفة، كانت أوليفيا جالسة قرب النافذة، ذقنها مستند إلى ذراعها، وعيناها تتابعان بصمت شجرة أزهار الكرز في الفناء. أوراقها الوردية كانت تتراقص بخفة مع نسيم الليل، وكأنها تهمس لها بأسرار لا يسمعها سواها.
عند جذع الشجرة، كان “سنوبول” يتمدد بكسل، يمد جسده الصغير ثم يخدش الأرض بمخالبه، قبل أن يلتفت ويلف ذيله حول نفسه. تلك المشاهد البسيطة كانت تمنحها نوعًا من السکينة، لكنها لم تمحُ القلق الذي كان يثقل قلبها.
لقد وافقت على الرحيل مع كولين، وعقلها يخبرها أن هذا القرار هو الخيار الأكثر أمانًا. كلما تأخر علاج جيف، تدهورت حالته أكثر، وهذا لم يكن وقت المخاطرة. الرحيل يعني أنها ستضمن سلامته، وستتمكن أيضًا من بدء علاجها من ذلك المړض الخبيث… السړطان.
ومع ذلك، كان هناك شعور خفي يضغط على صدرها، وكأن سحابة من الضباب تحيط بروحها، تمنعها من التنفس بعمق. حدسها ظل يهمس في أعماقها: هناك شيء غير طبيعي… شيء ينتظر أن يكشف عن نفسه.
وفجأة، اخترق الصمت صړخة مكتومة آتية من غرفة كولين:
– “لا… لا تضربني!”
قفز قلبها في صدرها، واندفعت نحو الباب، فتحته بسرعة. المشهد أمامها كان فوضويًا؛ أوراق متناثرة، بطانية ملقاة على الأرض، وكولين جالس في زاوية الغرفة، جسده ينكمش على نفسه، وكتفاه يرتجفان مثل كلب ضال تحت المطر.
اقتربت منه بحذر، وقالت بصوت منخفض يقطر طمأنينة:
– “كولين… لا بأس. أنا هنا.”
رفع رأسه فجأة وعانقها بقوة، وكأنها الحاجز الوحيد بينه وبين كوابيسه. قال بصوت متقطع:
– “أوليفيا… حلمتُ بليلة ۏفاة أمي. كان والدي يمسك مكواة ساخنة… ويضحك ضحكة شيطانية.”
ربتت على كتفه السليم بحنان:
– “إنه مجرد حلم، انتهى الآن.”
لكنها شعرت بحرارة جسده تنتقل إلى ذراعيها، فمدت يدها تتحسس جبينه، وعرفت أن الحمى تشتعل في جسده.
– “أنت تعاني من ارتفاع في درجة الحرارة… يجب أن تستلقي فورًا.”
ساعدته على الاستلقاء، وأحضرت ماءً باردًا وكمادات لتخفيف حرارته. كانت چروحه قد التهبت، وهذا ما تسبب في الحمى. طوال الليل، ظل ممسكًا بيدها بإصرار، حتى وهو يغفو ويهذي باسمها بين الفينة والأخرى.
جلست قربه تراقب أنفاسه المضطربة، وبدأت تفكر… ربما لم تكن حياتها الأسوأ كما كانت تعتقد. التعاسة، مهما اختلفت وجوهها، تحمل نفس المذاق المرّ في النهاية.
اعتنت به بصبر، تغيرت الكمادات عشرات المرات، ولم تفارقه حتى عادت حرارته إلى طبيعتها بعد يومين كاملين.
وفي صباح اليوم الثالث، تسللت أشعة الشمس من نافذة الغرفة لتداعب وجهها، فأفاقت ببطء، لكنها فوجئت بأن السرير إلى جانبها فارغ. قفزت على قدميها وركضت خارج الغرفة، حتى رأت كولين واقفًا في الفناء، مرتديًا قميصًا أبيض بسيط، ملامحه شاحبة لكنها تحمل ابتسامة هادئة.
كان واقفًا تحت شجرة أزهار الكرز، والضوء ينساب عليه، فيما تتساقط بتلات الزهور من حوله، فتبدو وكأنها هالة وردية تزينه. للحظة، بدا كأنه أمير خرج للتو من صفحات قصة خيالية.
قالت وهي تلتقط أنفاسها:
– “لقد أخفتني يا كولين… ظننت أن شيئًا حدث لك.”
ابتسم ابتسامة مطمئنة:
– “أشعر بتحسن كبير. أردت فقط أن أتنفس بعض الهواء النقي. أوليفيا… ألا ترغبين برؤية السيد فوردهام؟ يمكننا الذهاب إليه اليوم.”
ردت بقلق:
– “لا تُرهق نفسك، ما زلتَ تتعافى.”
أجابها بابتسامة واثقة:
– “لا تقلقي… أعرف حدود قوتي.”
ثم فجأة، أمسك بيدها ونظر في عينيها بجدية لم تعهدها فيه:
– “أوليفيا… أنتِ عائلتي الوحيدة. أعديني… ألا تتركيني أبدًا.”
رأت بريقًا غريبًا يلمع في عينيه، مزيجًا من التوسل والتمسك المهووس. خفق قلبها بسرعة، ولعقت شفتيها قبل أن تهمس:
– “أعدك.”
ابتسامته هذه المرة كانت نقية، صافية، كطفل وجد الأمان أخيرًا. بعدها ساعدها في تغيير مظهرها للتنكر، وغادرا معًا.
منذ الحاډثة التي تظاهرت فيها بالمۏت، لم تطأ قدماها خارج هذا المسكن. والآن، وهي ترى المشهد الخارجي يتبدل أمام عينيها، شعرت بمزيج غريب من الحنين والرهبة. كانت على وشك مغادرة المكان الذي أحبته وكرهته في آن واحد.
لكن تلك المشاعر تلاشت حين وصلت إلى فيلا صغيرة في ضواحي المدينة، تحت حراسة مشددة. هناك، رأت جيف. كان مستلقيًا، وجهه شاحب، أنفاسه هادئة كما لو كان في سبات عميق. اقتربت منه، ولم تستطع منع دموعها من الانهمار وهي تهمس:
– “أبي…”
وضع كولين يده على كتفها وقال:
– “لقد طلبت من أحدهم إجراء فحص شامل له. صحيح أنه لم يستعد وعيه بعد، لكن حالته مستقرة. ليو سيجري له عملية قريبًا، وسيعود إليكِ… أعدك.”
رفعت نظرها نحوه، وعيناها تحملان مزيجًا من الأمل والقلق، لكنه تابع بنبرة حازمة:
– “إذا لم يكن لديك ما تريدينه هنا، يجب أن يغادر والدك ألدينفين اليوم. بعدها بثلاثة أيام… سنرحل نحن أيضًا. هذه المرة… لن نعود.”
تجمدت مكانها، تستوعب كلماته. سألها بلطف:
– “أوليفيا… هل هناك شخص تريدين توديعه قبل أن نرحل؟”