رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 295

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 295 

توقفت أوليفيا للحظة تفكر بعمق، قبل أن تقول بصوت منخفض لكنه حاسم:
– “أريد أن أرى صديقتي المقرّبة… لا حاجة لوداع رسمي، فقط أريد أن أراها من بعيد.”

كانت تعرف أن الأمر محفوف بالمخاطر، لكن شوقها لإيفرلي كان يضغط على قلبها. فمنذ الحاډثة، أصبحت صديقتها تعمل خادمة في إحدى الشركات، تقضي ساعات طويلة في العمل الإضافي كل يوم. كانت أوليفيا تتخيلها وهي تبحث عنها پجنون، خصوصًا بعد أن شاهدت الأخبار التي تحدثت عن “اختفاء أوليفيا”.

لكنها لم تمتلك الشجاعة الكافية للوقوف أمامها وجهًا لوجه، خشية أن تتفجر المشاعر وټنهار خطتها كلها. بالإضافة إلى ذلك، كانت تعلم أن هناك عيونًا تراقبها في كل مكان، وأن الوصول إلى هذه المرحلة من الهروب لم يكن أمرًا سهلًا. لم تكن لتسمح لأحد بأن يعطل الخطة الآن.

ابتسم كولين بتفهم وقال:
– “حسنًا… سأساعدك على رؤيتها.”
كان دائمًا يوافق على طلباتها دون تردد، وكأنه يحاول تعويضها عن كل ما فاتها.

وفي نفس اليوم، رافقها إلى المكان المتفق عليه. كان وقت الغداء، والسماء ملبّدة بالغيوم وكأن المطر على وشك الهطول. رأت أوليفيا إيفرلي تدخل مقهى صغير يرتاده الموظفون القريبون.

كانت ترتدي ملابس العمل الرسمية التي لطالما اشتكت منها لأوليفيا، قائلة إنها تجعلها تشعر وكأنها “آلة بلا روح”. تقدمت نحو المقهى بخطوات بطيئة، كتفيها منحنيين، وعيناها خافتتان كدمية فقدت بريق الحياة.

جلست إلى طاولة قرب النافذة، وطلبت وجبتها دون أن تنظر حتى إلى النادل. ثم أسندت رأسها وذراعيها على الطاولة، تحدّق في الفراغ وكأنها تنتظر شيئًا لن يأتي. كل بضع دقائق، كان هاتفها يهتز، فتتناوله بسرعة لعلّه يحمل خبرًا ما، لكن سرعان ما يخفت الأمل ويحل محله خيبة صامتة.

لم تكن تستمتع بوجبتها، بل كانت تضع الطعام في فمها آليًا، وكأنها تأكل فقط لتملأ معدتها لا لتستمتع بالنكهة. حتى الكرفس – الذي كانت تكرهه أكثر من أي طعام آخر – أكلته دون أن تدرك.

كانت أوليفيا تراقبها من الخلف، تختبئ بين الزبائن، وعيناها تلتقطان كل حركة. رأت إيفرلي تفتح هاتفها مجددًا، لتظهر على شاشته صورة قديمة لأوليفيا من أيام الدراسة الثانوية. صورة التُقطت في أحد أكثر المواقف المحرجة، والتي كانت إيفرلي قد وعدت بمزاح أن تعرضها في حفل زفاف أوليفيا. لكن ذلك الحفل لم يحدث أبدًا، ولم تتزوج أوليفيا الرجل الذي أحبته، ولم تعش حلمها بأن تكون ربة منزل سعيدة كما خططتا معًا في تلك الأيام.

على شاشة الهاتف، كانت الدموع تنهمر ببطء، تبلل الصورة. وسمعت أوليفيا صوتها المرتجف وهي تهمس:
– “ليف…”

تسارعت أنفاس أوليفيا، وامتلأت عيناها بالدموع، لكنها كتمت شهقتها. أرادت أن تناديها، أن تركض إليها، لكنها أجبرت نفسها على التماسك.

مسحت إيفرلي دموعها بحركة مترددة، ثم دفعت الحساب وغادرت المقهى بخطوات بطيئة. كان من عادة إيفرلي أن تنتبه لكل ما يحيط بها، لكن هذه المرة بدت غارقة في عالمها الخاص.

تذكرت أوليفيا ما قاله كولين: لقد تغيرت حياة صديقتك منذ رحيلك. والآن، كانت ترى بنفسها ما يعنيه ذلك.

في البداية – كما علمت لاحقًا – لم تستطع إيفرلي الأكل أو النوم من شدة الصدمة. ثم، ومع مرور الوقت، بدأت تتقبل غيابها ببطء، لكنها تحولت إلى شخص آخر… كزومبي يسير بين الناس بلا روح. كانت صداقتهما، رغم بساطتها، أعمق من روابط الډم.

رفعت أوليفيا رأسها، ولاحظت أن السماء أصبحت أكثر قتامة، والغيوم أثقل. أسرعت لشراء مظلة، لكنها حين خرجت إلى الشارع، رأت المشهد الذي سيبقى محفورًا في ذاكرتها:

إيفرلي كانت تمشي تحت المطر الغزير، بكعب عالٍ، تحاول الحفاظ على توازنها. فجأة، اصطدم بها رجل مسرع، فتعثرت. تذكرت أوليفيا ضحكات الماضي حين كانت صديقتها تمزح بأنها إذا سقطت يومًا، ستطالب بتعويض مالي. لكن هذه المرة، لم يكن هناك ضحك.

وقفت إيفرلي دون أن تنظر حتى إلى الشخص الذي اصطدم بها، تحدق إلى الأمام بعينين فارغتين. كانت قطرات المطر تنساب على وجهها، تختلط بدموعها، فلا أحد يعرف أيهما المطر وأيهما البكاء. ربما كان هذا هو السبيل الوحيد الذي بقي لها للتعبير عن ألمها.

سمعتها أوليفيا تهمس بصوت متهدج:
– “ليف… ألم نعد بعضنا أن نشيخ معًا؟ لماذا تركتِني؟”

ثم صفعت نفسها بخفة وهي ټلعن ذلك اليوم:
– “الذنب ذنبي… لماذا كنتُ في رحلة عمل وقتها؟ لو كنتُ بجانبك، كم كنتِ ستشعرين بالأمان؟”

وفي تلك اللحظة، اقتربت منها امرأة مسنة تحمل مظلة، ووقفت إلى جانبها قائلة:
– “آنسة… الجو يزداد برودة. قومي، ما زلتِ صغيرة. لا يوجد ما يستحق أن تحني رأسك هكذا. لا تبكي.”

لكن إيفرلي لم تتمالك نفسها، واڼفجرت في بكاء مرير، كطفلة فقدت أغلى ما تملك:
– “جدتي… لقد فقدت أعز صديقاتي. لا أستطيع العثور عليها.”

مدت العجوز المظلة إليها، وابتسمت بحنو:
– “الحياة مليئة بالوداع يا ابنتي. لكن تذكري… ليس كل فراق نهاية، أحيانًا يكون بداية للقاء أفضل.”

همست إيفرلي باسمها مجددًا:
– “ليف…”

وفي لحظة خاطفة، رفعت رأسها بعينين دامعتين، وظنت أنها رأت أوليفيا واقفة وسط الحشد، تبكي بصمت.

جميع الفصول من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!
Scroll to Top