الفصل 296
كانت السماء ملبّدة بالغيوم، والمطر يتساقط بخفة كأن الطبيعة تتآمر على إخفاء الدموع خلف قطرات الماء.
فركت إيفرلي عينيها ببطء، وقد باتت ترى أشياءً كثيرة هذه الأيام حتى صارت تشك في بصرها. وبحلول الوقت الذي استطاعت فيه أن تستجمع أفكارها وتعيد أنفاسها، كانت صورة أوليفيا قد تلاشت من أمامها كما يتلاشى الضباب مع هبوب الريح.
همست في سرّها: “مجرد وهم… لا بد أنه وهم.”
لكن قلبها لم يقتنع.
هزّت رأسها بعجز، محاولةً طرد الخيال، ثم انضمت إلى الحشد المتزاحم، تحمل مظلتها السوداء لتتقي المطر. فجأة، انزلقت قطعة ورق صغيرة من بين ضلوع المظلة لتسقط أمامها بهدوء، كأن الريح أوصلتها إليها عمدًا.
انحنت والتقطت الورقة، وبمجرد أن لامست أناملها سطحها المبتل، تجمّدت في مكانها. كانت الكتابة اليدوية مألوفة، مرتبكة بعض الشيء، وكُتبت على عجل، لكنها واضحة بما يكفي لتقرأ: “اعتني بنفسك.”
ارتعشت أصابعها، وارتسمت على وجهها ابتسامة مرتبكة ممزوجة بالدموع. كانت هذه أبسط نعمة يمكن أن تمنحها الحياة الآن. أدركت فورًا أنها خط يد أوليفيا، وهذا وحده كان كافيًا ليعيد إليها الإحساس بالأمان.
رفعت المظلة قليلًا لتخفي وجهها، خشية أن يلاحظ أحد دموعها. “أوليفيا ما زالت على قيد الحياة…” فكّرت، وقلبها يخفق بقوة. “إنها تستخدم طريقتها الخاصة لتخبرني بذلك.”
كانت إيفرلي ذكية بما يكفي لتفهم أن أوليفيا غير قادرة على الاتصال بها مباشرة، ولهذا اختارت هذه الوسيلة الماكرة، السريعة، والآمنة.
غمرها شعور بالراحة لم تعرفه منذ أسابيع، كأن عبئًا ثقيلاً أزيح عن صدرها. أمسكت الورقة بقوة، كما لو كانت تمسك بكنز، تخشى أن تفلتها الريح أو تبتلها الأمطار. لم تعد القلق يسيطر عليها بعد الآن.
لكن حين رفعت المظلة أكثر، ظهر على وجهها تعبير حزين. العرض قد بدأ، وكانت مضطرة لأن تواصل التمثيل حتى النهاية. لا مجال الآن لإظهار حقيقة مشاعرها.
في الجهة الأخرى، جلست أوليفيا داخل السيارة. مدّ كولين يده ومسح دموعها بطرف أصابعه قائلاً:
– “أوليفيا، لا تبكي… صديقتك مجتهدة، وستكون بخير. ستعيش حياة سعيدة.”
راقبت أوليفيا من خلال زجاج السيارة إيفرلي وهي تندمج في الحشد، وارتسمت على شفتيها ابتسامة خفيفة.
– “أجل… أعتقد ذلك أيضًا.”
كانت إيفرلي ربما ليست الأذكى أو الأقدر، لكنها بلا شك الأكثر اجتهادًا. وبعيدة عن التعقيدات الفوضوية لعلاقات الرجال، كان مستقبلها مشرقًا وواضح المعالم.
في تلك اللحظة، وصلتها رسالة من نورما. قبل أيام قليلة، كانت قد اتصلت بها لتستفسر عن بعض المعلومات، ووعدتها نورما أنها ستعرف الإجابة قريبًا.
جاءت الرسالة واضحة: كلارا هي من استخدمت هاتف أوليفيا سرًا في الشركة.
تجمّدت أوليفيا، وعاد إلى ذاكرتها وجه كلارا الواثق، تلك المرأة التي كانت تتولى قيادة فريق B، والتي لم تتوقف عن السخرية منها منذ اليوم الأول. كانت في البداية تظن أن الأمر مجرد غيرة مفاجئة بسبب حصولها على منصب مديرة المشروع، وهي الفكرة التي تبناها أغلب الزملاء.
لكن الآن، ومع كشف هذه المعلومة، بدأت الخيوط تتجمع في عقلها.
إذا كانت كلارا هي جاسوسة العقل المدبر… فهذا يفسر الكثير.
وفجأة، برز في ذهنها وجه رجل طويل ونحيل يدعى بول. تذكرت تفاصيل لقائهما، وعندما فكّرت أكثر، اكتشفت أن بينه وبين كلارا شبهًا واضحًا. تساءلت عن نوع العلاقة التي تجمعهما.
– “أوليفيا، لماذا تنظرين بهذا الشكل وكأنك اكتشفت سرًا كبيرًا؟” سألها كولين، وهو يلاحظ ارتباكها.
– “كولين… هل يمكنك مساعدتي في البحث عن شخصين؟”
– “بالطبع، من هما؟”
لاحقًا في المساء، جاءها الجواب. وكما توقعت، كان بول وكلارا شقيقين من الأم، ولهذا لا يحملان نفس اسم العائلة. كانت جدتهما تعيش في الريف، في منطقة نائية.
وهنا ضړب خاطر أوليفيا بقوة: إذا كان طفل بيل ما زال على قيد الحياة… فربما يعيش مع بول وجدته!
نظرت إلى العنوان الذي حصلت عليه، فوجدته نفس المكان الذي قال جاك إنه ذاهب إليه قبل أن يختفي.
هل واجه مشاكل هناك؟ أم أن اختفاءه له علاقة بهويته؟
لم تجد إجابة، لكنها أيقنت أنها لا تملك ترف الانتظار. كان عليها أن تجد طفل بيل بأي ثمن، فهي بحاجة إلى دليل قوي يثبت أن بيل فقدت صوابها بسبب بول، وليس بسبب جيف.
لعنت نفسها لأنها لم تصل إلى هذه الفكرة إلا الآن. شعرت بالتوتر يلتهمها كالڼار، وبدأت تمشي ذهابًا وإيابًا في السيارة، غير قادرة على الجلوس.
قطع شرودها صوت كولين:
– “أوليفيا… تلقيت خبرًا بأن السيد فوردهام قد صعد على متن السفينة.” ثم أضاف وهو يحدّق في ملامحها: “ما بك؟ تبدين… غير مستقرة.”
وقبل أن ترد، اهتز هاتفها مجددًا. كانت رسالة أخرى من نورما، تخبرها فيها أن كلارا قدّمت خطاب استقالتها وتستعد لمغادرة ألدينفين قريبًا.
هذه المرة، أدركت أوليفيا أن الوقت يداهمها… وأن الخيوط كلها بدأت تتجمع في يدها، لكن إن لم تتحرك فورًا، فقد تفقدها إلى الأبد.