رواية حتى بعد الموت الفصل 2

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل الثاني
في ظلمة الليل، كانت نوران تقف وحيدة في الحمّام.
اندفع الماء الساخن على جسدها، وكأنه يحاول أن يطارد قشعريرة استوطنت عظامها منذ شهور. فركت عينيها المتورمتين من البكاء، ثم لملمت ما تبقى من قواها واتجهت إلى غرفة النوم المجاورة.
عندما فتحت الباب، انبعث منها دفء لا يُطاق. كانت غرفة أطفال مزينة بألوان ناعمة، تنبض بسكونٍ مؤلم. ضغطت زر صندوق الموسيقى الموضوع على الرف، فبدأت نغمة ناعمة تتسلل إلى الأرجاء، لكنها لم تهدّئ شيئًا في داخلها.
الضوء الأصفر الخافت كان كافيًا لكشف انهيارها، ونغمة الموسيقى لم تغطِّ على بكائها، بل زادت من حدته.
كانت تبكي بصمتٍ… لا يُكسر.
شعرت وكأن الله قرر أن يأخذ حياتها عقابًا على فشلها في إنقاذ جنينها.
زحفت إلى سرير الطفل الذي بالكاد بلغ طوله ثلاثة أقدام، وتمدّدت على جنبه، ثم اتخذت وضعية الجنين، وكأنها تحاول العودة إلى رحم لا يؤلم.
انزلقت دمعة من عينها اليسرى، تبعتها أخرى من اليمنى، لتبلل خدها وبطانية الأطفال التي استلقت عليها.
عانقت دمية صغيرة محشوة، تشبثت بها كأنها الحياة، وتمتمت وسط شهقاتها:
“آسفة، صغيري… كان من المفترض أن أحميك. لا تخف… سأكون معك قريبًا.”
نوران، التي كانت ذات يوم زهرة متفتحة، أصبحت تذبل كل يوم أكثر. كان موت طفلها بداية الانهيار. والآن، وهي ترى والدها يشيخ ويضعف، لم تعد تجد معنى للبقاء.
إن كان يمكنها ترك المال له، فما الذي يمنعها من الذهاب إلى حيث يرقد صغيرها؟
وقبل بزوغ الفجر، ارتدت ملابسها بتأنٍ. وقفت أمام صورة قديمة التُقطت لهما خارج مبنى البلدية، بعد تسجيل زواجهما. كانا يبتسمان… ومنذ تلك اللحظة، مرّت ثلاث سنوات وكأنها قرن من الحزن.
حضّرت فطورًا صحيًا، وكأنها تحاول خداع نفسها بأنها لا تزال قادرة على الاعتناء بشخص ما.
رغم كل شيء، كانت ترغب أن تعيش أطول قليلاً… من أجل والدها.
لكن لحظة خروجها من المنزل، قطع رنين الهاتف هذا الهدوء الهش.
“سيدة الهاشمي، والدك تعرّض لنوبة قلبية. نُقل إلى قسم الطوارئ.”
“أنا قادمة فورًا!”
انطلقت إلى المستشفى بجنون. جلست خارج غرفة العمليات، يداها متشابكتان، قلبها لا ينبض سوى بدعاءٍ واحد:
“يا رب، لا تأخذ آخر من بقي لي.”
حين أعطتها الممرضة إيصالًا، تجمّدت في مكانها.
أكثر من مئة ألف دولار… هذا هو ثمن الجراحة.
لم يتبقَّ في بطاقتها سوى خمسة آلاف، بعد سنوات من السداد المتواصل من ثلاث وظائف أنهكت جسدها وروحها.
لم تجد أمامها سوى خيارٍ واحد: الاتصال بأحمد.
أجاب بصوت بارد:
“أين أنتِ؟ انتظرت نصف ساعة.”
“حدث طارئ… والدي أُصيب بأزمة قلبية.”
“نوران، هل هذه مزحة؟ كنت أتساءل لماذا غيّرتِ رأيك فجأة… هل تظنينني أحمقًا؟”
“أنا لا أكذب. والدي في خطر. من فضلك، أعطني المال الآن. سأوقّع على الطلاق غدًا.”
صمتٌ ثقيل. ثم قال بنبرة سامة:
“أتمنى حقًا أن يموت والدكِ. يمكنني دفع التكاليف… لكن فقط بعد توقيع الطلاق رسميًا.”
وانقطع الخط.
تسمرت نوران، وجهها شاحب، نبضها بطيء من الصدمة.
هل قال ذلك حقًا؟ كان يومًا يعامله باحترام.
من الذي يتمنى الموت لرجل مسن؟
تذكرت إعلان إفلاس عائلتها قبل عامين.
هل يمكن أن يكون أحمد وراء ذلك؟
لكن لا وقت للأسئلة. والدها بين الحياة والموت.
فتحت أبواب غرفة العمليات، وخرج الطبيب.
“لا تقلقي، لقد نجا. لكنه ضعيف للغاية. تجنّبي أي توتر أمامه.”
شكرت الطبيب، ثم سألت الممرضة:
“ما الذي حدث؟ كان بصحة جيدة.”
“قال إنه يتوق لحساء الفطر. ذهبت لإحضاره. حين عدت… كان في الطوارئ. أنا آسفة.”
سألتها نوران:
“هل زاره أحد حين غبتِ؟”
“لا… بدا طبيعيًا تمامًا.”
لكن نوران شعرت أن شيئًا ما غريب. هرعت إلى مكتب الاستقبال.
“هل زاره أحد اليوم؟”
“لا، لا أحد. هل دفعتي الفاتورة؟”
ابتلعت إحراجها، وتمتمت:
“سأدفع قريبًا.”
خرجت من المستشفى، وتوجّهت إلى مبنى البلدية.
لكن أحمد لم يكن هناك.
اتصلت به.
“أين أنت؟”
“في مكتبي.”
“أرجوك، تعال الآن. أحتاج المال. والدي…”
ضحك.
“أيهم أهم، صفقة بملايين، أم أنتِ؟”
“سأنتظر. أحمد، أرجوك!”
“إن مات، سأدفع تكاليف جنازته.”
ثم أغلق الخط.
عاودت الاتصال، لكنه أغلق هاتفه.
كانت تقف تحت المطر، جاثية تحت لافتة الحافلات.
غارقة في ندمٍ لا ينتهي.
لو لم تحبل، لو لم تترك الجامعة، لكانت اليوم في مكانٍ آخر.
كان يُتوقَّع لها مستقبل باهر… لكنها خسرت كل شيء.
قبل عام، طلب أحمد نقل مجوهراتها وحقائبها. لم يبقَ لها سوى خاتم زفافها.
خلعته… ودخلت متجر مجوهرات.
نظرت الموظفة إلى مظهرها المبلل، ثم سألت:
“هل معكِ الفاتورة؟”
“نعم.”
لكن قبل أن تكتمل المعاملة، امتدت يد وسحبت العلبة.
“الخاتم جميل جدًا… سأشتريه.”
رفعت نوران رأسها، لتجد نفسها أمام من تكرهها أكثر من أي شخص في العالم:
مرام.

الرواية كاملة من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top