رواية حتى بعد الموت الفصل 29

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 29

تدفقت الدموع على وجنتي نوران كأنها أمطارٌ في موسمٍ جاف، تسقي جراحًا لم تبرأ يومًا. لم تكن دموعًا عابرة، بل كانت اعترافًا صامتًا بالخذلان، وبالنهاية التي لا مفر منها.

كانت تعلم، دون أدنى شك، أن ما جمعها بأحمد قد انكسر إلى غير رجعة. فالرجل الذي أحبته بصدق، خانها بطريقة لا تترك مجالًا للمغفرة. لم يكن الأمر خيانة عاطفية فحسب، بل تدميرًا كاملًا لما تبقى من كيانها، ومن كيان آل الهاشمي، الذين دُمّروا بسبب قرار واحد اتخذه أحمد. ومع ذلك، كان آل الهاشمي، بشكل غريب ومؤلم، مدينين له بحياة أخته.

لم يكن هناك ميزان عادل يمكنه أن يسوي تلك الديون المعنوية. فكل محاولة لطلب المغفرة والسماح، لن تقود إلا إلى مزيد من التعقيد، وكأن خيوط العلاقة بينهما قد تحوّلت إلى شبكة من الأشواك، كلما حاولا تخليص نفسيهما منها، ازداد النزيف.

اقترب أحمد منها بصمت، عيناه تحملان عبء سنين من الألم والتناقض. أمسك وجهها بكفيه، ومسح دموعها بوجنتيه، في حركة بدت تلقائية، لكنها كانت مشبعة بكل ما لم يُقال بينهما.

قال بصوت متهدج، فيه قسوة صدق مؤلم:
“نوران… لا تُحاولِي أن تحبيني، بل اكرهيني. لا تسامحيني، لا تتذكري لحظاتنا، فقط تذكري أنني قتلت ابننا. لم أخنك فقط… بل حرمتكِ من أجمل ما كان يمكن أن نملكه معًا. ولن أتراجع عن ذلك أبدًا.”

كلماته اخترقت قلبها كالسكاكين، لكنها، رغم كل شيء، شعرت بارتعاش روحه، بحنانه المختبئ خلف القسوة، كواحة ظليلة في وسط عاصفة رملية لا ترحم. ومع ذلك، كانت تدرك جيدًا أن تلك الواحة، مهما بدت آمنة، مصيرها أن تبتلعها الرمال.

غادر أحمد الغرفة دون التفاتة، وكأن كل ما كان بينهما انتهى في تلك اللحظة. وقفت نوران عاجزة، ترقب أثر خطواته وهي تتلاشى في الصمت. لم يكن وداعًا لفظيًا، لكنه كان أكثر نهائية من أي كلمات.

في وقت لاحق، غادرت نوران المكتب وهي تجرّ قدميها بثقل. لم تجد السيدة هناء في مكانها المعتاد. تلك المرأة الطيبة، التي كانت تظنّ دومًا أن خلافهما مجرد نزاع مؤقت بين عاشقين عنيدين. لم تتخيل قط أن الجراح كانت بهذا العمق، وأن ما فُقد بين نوران وأحمد لم يكن شيئًا يمكن إصلاحه.

لطالما نظرت السيدة هناء إلى نوران على أنها السيدة القيسي الشرعية، الزوجة الحقيقية، القلب النابض للقصر. لم تكن تعلم أن اعتقادها هذا كان يحمل في طياته سوء فهم قاتل.

ضحكت نوران، ضحكة باهتة، على سذاجتها القديمة. كانت تظن أن وجود هناء يمنع الوحدة، لكن الحقيقة أن فراغ القصر لم يبدُ بهذا الوضوح من قبل. مع غياب هناء، شعرت لأول مرة بالوحشة تطغى على الجدران، وبالملل يتسلل إلى تفاصيل حياتها اليومية.

في المطبخ، كان هناك قدر من الحساء، أعدّته السيدة هناء كعادتها. سكبت نوران لنفسها وعاءً صغيرًا، وجلست بصمت، تراقب البخار المتصاعد، وقد غطّى وجهها وكأنّه يحجب عنها ما تبقى من ملامح هويتها القديمة.

تناولت الحساء ببطء، وكل لقمة منها كانت استذكارًا لقراراتها، ومذاقها المر كان يضاهي مرارة الواقع. لكنها شعرت بشيء غريب يطفو داخلها… صفاء مؤلم، لكنه مُحرر.

في تلك اللحظة، اتخذت قرارها الأخير. لم تعد ترضى بأن تكون ضحية لعبة لم تختر قوانينها. لن تسلك طريق العلاج الكيماوي الموجع، بل ستختار أن تعيش أيامها الأخيرة بشجاعة وكرامة.

فكّرت بصوتٍ داخلي هادئ، لكنه حاسم:
“أحمد… سأُسدد دَين آل الهاشمي، ولكن بطريقتي الخاصة.”

كانت قد قرأت في عينيه من قبل ما يكفي لتدرك أنه لن يحتمل ألم فقدانها. عرفت ذلك جيدًا، وتشبثت بتلك المعرفة كمن يتشبث بآخر سلاح له.

وفي تلك اللحظة بالذات، شعرت وكأن القيود التي كبّلتها طويلًا قد انكسرت أخيرًا. شعرت بخفة غريبة، وكأنها تنفّست بحرية لأول مرة منذ سنوات.

في تلك الليلة، لم يعد أحمد.

وغرق المنزل في صمت ثقيل. لا صوت ولا حركة، وكأن الحياة نفسها قد توقفت قليلًا… لتلتقط أنفاسها، أو ربما… لتودّع.

وفي صباح اليوم التالي، نهضت نوران باكرًا، وكأنها استيقظت من سبات طويل. بدت ملامحها أكثر إشراقًا، فيها حيوية هادئة، وعيناها خاليتان من الغضب أو الحزن.

كان لمساندة السيدة هناء أثرٌ لا يُنكر، فقد كانت ترفرف حولها كنسمة حنونة، تمنحها شعورًا بالأمان وسط عالمٍ يتداعى. حتى العلاج، رغم قسوته، بدا وكأنه بدأ يؤتي ثماره، أو ربما كان ذلك أثر الأمل الجديد في نفسها.

ارتدت ملابس بسيطة وأنيقة، وتقدّمت نحو الباب. حين فتحته، وجدت هشام واقفًا بانتظارها، وملامحه تحمل شيئًا من التوتر والاحترام.

قال بصوتٍ خافت: “صباح الخير، سيدتي القيسي.”

أجابت بابتسامة دافئة، نادرة: “صباح النور، هشام.”

تجمّد هشام في مكانه، وقد أذهلته رؤيتها تبتسم مجددًا. طوال عامين، لم ير منها سوى دموعًا ونظرات منهكة. أما الآن، فقد بدت كأنها امرأة عادت من حافة الهاوية، أقوى، وأوضح.

لكنه لم يجد ما يقوله، فتولت نوران المهمة بدلًا منه، ومضت تتحدث بثقة من عرف طريقه بعد تيه طويل…

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 30

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top