الفصل 32
بعد أن أحصت الأيام المتبقية لها، قررت نوران أن استقبال العام الجديد برفقة أحدهم قد يكون أقل قسوة من مواجهته وحيدة.
وكعادتها، مدت إصبعها الصغير نحوه وقالت بابتسامة هادئة:
“اتفقنا.”
كان أحمد متجمّدًا، مذهولًا من بساطة هذا الاتفاق. مرام، بدورها، اقتربت منه واحتكت به بوقاحة، وقالت بنبرة تملؤها الغيرة:
“أحمد…”
لكنه لم يلتفت إليها. بل مدّ إصبعه ببطء، وشبكه بإصبع نوران، قائلاً بثقة:
“لا تراجع.”
لقد توصّلا أخيرًا إلى اتفاق… هو الوحيد الذي بدا ممكنًا وسط هذا الركام.
كان ذلك أفضل ما استطاعت نوران تقديمه. شهر واحد فقط… بعدها تُعيد إليه حريته دون ضجيج.
تنهدت مرام وقالت بنبرة تحمل نفاد صبر:
“أحمد، أنا لا أضغط عليك لأجل الطلاق أو شيء آخر، لكن فكّر في طفلك…”
شعرت نوران بانقباضٍ في معدتها وهي تراقب تصرفات مرام الطفولية المتصنّعة. قالت بنبرة مقتضبة:
“سأذهب إلى الحمام.”
في نظرها، أحمد كان رائعًا في كل شيء… ما عدا اختياراته فيمن يمنحهم البقاء في حياته.
مع أن مرام كانت مجرد جارة، لم يكن هناك ما يجبره على البقاء إلى جانبها سوى وهمٍ صنعه هو بنفسه. منذ وقوفه إلى جوارها، بدأت نوران تفقد احترامها له.
أم هل كان منجذبًا لهذا النوع من النساء؟ النساء اللواتي يُجيدن إثارة الغضب والشفقة معًا؟
تساؤلات كثيرة تلاحقت في ذهنها وهي تسير نحو الحمام.
الرجال لا يرفضون امرأة شقية، أليس كذلك؟
لطالما كانت خجولة، هادئة، مغازلة بطريقتها الرقيقة… وكان هو يمنحها القمر والنجوم لقاء تلك الابتسامة فقط.
لكن الآن؟ الآن يمنحها شهرًا واحدًا.
حسنًا، يكفي. حتى القليل من الضوء قد يكون كافيًا حين تحيطك العتمة.
ركعت قرب المرحاض، ثم تقيأت كل ما في أحشائها. كانت قد ظنّت في ذلك الصباح أن حالتها الصحية تحسّنت. لكن الواقع صفعها بقوة.
خرجت مع القيء بقعة دم حمراء، طازجة… ظلت تنظر إليها بدهشة وصمتٍ جليدي.
نذير سوء.
أجبرت نفسها على تقبّل ذلك. ما عاد في العمر متّسعٌ كثيرٌ للإنكار.
حين استجمعت قواها وهمّت بالخروج، شعرت بشيء يسحب طرف معطفها الفرو من الأسفل.
نظرت، فرأت طفلاً صغيرًا يشبه أحمد حد الدهشة. كان ابنه، لا شك في ذلك. أحد يديه على حافة المغسلة، والأخرى تمسك بطرف معطفها بإصرار طفولي. لعابه يسيل على ذقنه، وتمتم بصوت خافت:
“آه… ماما!”
كان يفترض بها أن تكرهه. فهو ثمرة ارتباطٍ لم تعرف له طعمًا إلا الخيانة. لكنه كان طفلاً… بريئًا… وهي، رغم كل شيء، كانت أمًا. ولو للحظة عابرة.
انخفضت أمامه ونقرت أنفه بإصبعها وقالت بخفة مصطنعة:
“أيها الشقي الصغير، لا تكبر وتصبح مثل والدك، مفهوم؟ بل كن رجلًا يمنح امرأته الدنيا كلها، ويُقدّس الأرض التي تمشي عليها.”
ضحك الطفل، ثم مدّ ذراعيه إليها قائلاً بلهفة:
“احمليها!”
عبست نوران لتخيفه:
“أنا امرأة شريرة. قد أخطفك وأبيعك في السوق. ألا تخاف؟”
لكن رُكان ضحك بصوتٍ أعلى. لم يعرف الخوف.
هرعت المربية بعربة الطفل، وجهها شاحب وقلق:
“يا إلهي! أرعبتني! ماذا تفعل هنا؟! هذا حمام السيدات!”
ولمّا رأت نوران، أسرعت بسحب الصغير منها. للحظة، واصل رُكان الضحك، ثم بدأ بالصراخ فجأة وهو يشير نحو نوران:
“ماما! احمليها!”
أيها الصغير، لا تنادِها بهذا الاسم… فهي ليست أمك.
غادرت المربية مسرعة تحمل الطفل الباكي، تاركةً نوران واقفة تنظر إليه بحزنٍ غائر.
كان يُلوّح لها بكفه الممتلئة، ويتمتم بألم:
“كل شيء… يا أمي!”
وقفت نوران عند مدخل الحمام، مبهوتة، وعيناها تلمعان بدموعٍ لم تسقط بعد. وعندما رآها هشام، كان وجهها شاحبًا، وكأنها عادت لتوّها من عالمٍ آخر… عالم لا يُغادره من يدخله بقلبٍ مكسور.