رواية حتى بعد الموت الفصل 34

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 34

أجاب أحمد، بصوت خافت لا يخلو من استسلام:
“حسنًا.”

كانت تلك الكلمة البسيطة كجدار انكسر بصمت. لأول مرة منذ أكثر من عام، استسلم كلاهما، ولو للحظة واحدة. لم يكن ذلك انتصارًا، بل راحة منهكة، كأنهما أنهيا حربًا طويلة دون فائز.

اقتربت نوران منه أكثر، والتفت حوله بذراعيها بشغفٍ يائس، كما اعتادت أن تفعل من قبل، قبل أن يتكسر كل شيء. تحرك إصبعه المرتجف قليلاً، كأنه يوشك أن يرد على احتضانها، ثم استقر في النهاية على جانبه، في حياد بارد.

انطلقت السيارة متجهة نحو شركة أحمد، لكن شيئًا في عينيه كان غائبًا تمامًا عن هذا العالم. طلب من السائق، كامل، أن يوصل نوران لاحقًا إلى “هورن”.

لكن نوران لم تذهب إلى منزل القيسي كما كان متوقعًا. طلبت من السائق تغيير الوجهة، وتوجهت إلى المستشفى.

في جناحٍ هادئ، خافت الإضاءة، كان جاد لا يزال يرقد فاقدًا للوعي، وقد نُقل إلى غرفة عادية بعدما تجاوز مرحلة الخطر. دخلت نوران بخطوات هادئة، لكنها كانت تحمل في داخلها ضجيجًا لا ينتهي.

أرسلت مساعدها إلى المنزل، وأصرت على أن تعتني بوالدها بنفسها. جلبت وعاءً من الماء الدافئ، وقطعة قماش ناعمة، وبدأت بمسح وجهه وأصابعه بعناية، كما كانت والدته تفعل به في طفولته.

همست وهي تمرر المنديل على جبينه:
“أبي… أعرف سرك. أتمنى لو كنت مخطئة. أرجوك استيقظ، وقل لي إن كل ما سمعته ليس حقيقيًا… قل إنك لم تفعل تلك الأشياء… وأنك لم تكن سببًا في موت جودي.”

ترددت قليلًا، ثم تابعت بصوتٍ مكسور:
“أبي، أنا مريضة. مصابة بسرطان المعدة. أحمد لا يعلم، وربما لا يجب أن يعلم. لا أريد شفقته. لكن… لو ضحيت بحياتي من أجله، هل سيغفر؟ هل سيتخلى عن كراهيته؟”

كانت عيناها ممتلئتين بالدموع، لكن ملامحها ثابتة.
“أعرف أن حياتي لم تكن سيئة. لقد اعتنيت بي، كنتَ أبًا رائعًا في نظري. مهما فعلتَ، ستبقى أبي، وسأظل أحبك. سأحاول إصلاح ما أفسدته بقدر ما أستطيع، ولو كان الثمن روحي.”

توقفت قليلًا، وضمت يده الباردة بين راحتيها:
“أعلم أنك ما كنت لتسمح لي بفعل ما أفعله الآن لو كنت في وعيك… لكنني لم أعد أملك رفاهية الاختيار. أنا أحبه، أحببته منذ ثماني سنوات. لا يهم إن كان ما بقي لنا مجرد شهر واحد، فأنا مستعدة لتحمّل كل شيء.”

كان عقل نوران يضجّ بالأفكار، بالحزن، بالتساؤلات التي لا تجد لها جوابًا. جلست إلى جواره وقتًا طويلًا، تهمس وتبكي وتصمت، وتتنفس الغضب والخذلان.

كانت تعلم في أعماقها أن ما تبقّى لها على هذه الأرض بات محدودًا، وكان هذا – الجلوس بجانب والدها، الاعتراف، المسامحة – كل ما تستطيع تقديمه له، وكل ما تبقى من قوتها.

بعد الظهر، عادت نوران إلى منزل القيسي. ورغم اضطرابها، كانت متمسكة بكلمة أحمد – رجل لم يعرف الكذب يومًا، ولا نكث الوعد.

عند وصولها، رأت مرام واقفة على الشرفة، وكأنها تنتظرها منذ زمن. بدت متوترة، وخلعت قناع الابتسامة فور أن وقعت عيناها على نوران.

كانت عينا مرام مشتعلة، وصوتها يقطر احتقارًا:
“أتظنين أنه سيعود إليكِ راكضًا؟ استسلمي يا نوران. لا فائدة.”

لكن نوران لم تَغضب. نظرت إليها بهدوء غريب، يحمل من السلام بقدر ما يحمل من الإنهاك.
“مرام، هل تحبين أحمد؟”

تفاجأت مرام بالسؤال، كأنها ضُربت بغتة. لم تتوقع هذا الهدوء، ولا هذا الصدق المباغت.

ترددت، ثم أجابت بعصبية:
“لقد قررت الزواج منه قبل أكثر من عشر سنوات. التقيته قبلك. كنتُ الأولى، وأنا الأحق.”

صمتت لحظة، ثم أضافت بحدة:
“أنتِ لا تستطيعين الفوز.”

ابتسمت نوران بسخرية رقيقة، وقالت:
“أعلم.”

رفعت رأسها، وقالت بنبرة خفيفة:
“ولا أعلم إن كنتِ ستُصدقينني، لكنني لم أرد يومًا أن أكون عدوّتك. حتى اليوم.”

لأن الأموات لا ينافسون الأحياء. ولا علاقة تُبنى على حديث عابر. ما أرادته نوران لم يكن حربًا، بل وداعًا.

“أنا لا أطلب شيئًا. أريد شهرًا واحدًا فقط. وبعده… سأغادر المدينة.”

مرام لم تُصدق، ورفعت حاجبها ساخرة:
“هل تعتبرين نفسكِ طفلة؟ تظنين أن أحمد…”

لكنها لم تُكمل. إذ قاطعها صوت طفل يصرخ من بعيد بفرح بريء:
“ماما!”

ومن بين الثلوج، ظهرت حزمة صغيرة من الحياة، تمشي على قدميها الصغيرتين ببدلة دبٍ صغيرة. تهادى بخطواته المرتعشة، ثم تعثّر، وسقط على الثلج، وبدأ يزحف بحماس.

زحف رُكان نحو نوران، فاتحة ذراعيها. كانت أسرع من مرام. التقطته وضمته إليها قبل أن يبرد جلده الصغير على الأرض.

الثلج يحيط بهم، لكن بين ذراعيها، كان الدفء.

ابتسم الملاك الصغير، ومدّ يديه الصغيرتين، يحاول تطويق عنق نوران بقدر استطاعته.

لكن مرام، بغضب مكتوم، سحبت ذراعه بعيدًا، فبكى الطفل بصوتٍ يقطع القلب. حاولت نوران تهدئته، وضمته أكثر، بينما قلبها ينكمش من الألم.

ذلك الطفل، في لحظة واحدة، اختصر كل ما فقدته، وكل ما حلمت به، وكل ما تتشبث به في أيامها الأخيرة.

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 35

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top