رواية حتى بعد الموت الفصل الثالث

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل الثالث
ارتدت مرام معطفًا أبيض من الكشمير، ينسدل بأناقة على كتفيها كأنه صُنع خصيصًا لها. أقراطها اللؤلؤية اللامعة زادتها نعومةً وفتنة، فيما التفَّ شال فخم حول رقبتها، ثمنه وحده يتجاوز الألف دولار.
حين دخلت المتجر، تقدم البائع نحوها فورًا، بابتسامة لا تخلو من تملقٍ مدروس.
“سيدتي القيسي، أليست هذه زيارة مشتركة مع السيد القيسي لاختيار المجوهرات؟ لقد وصلت قطع مميزة مؤخرًا، وأنا واثق أن كل واحدة منها ستليق بذوقك الرفيع. بالمناسبة، قطعة الزمرد التي طلبتِ حجزها ما زالت بانتظارك. جربيها، ستتماهى مع بشرتك بشكل رائع.”
كان يكرر لقب “السيدة القيسي” في كل عبارة تقريبًا، كأنما يكرّس واقعًا لم يُعلن رسميًا بعد. لكن مرام لم تصحّح له، بل اكتفت بالتفاتة خاطفة نحو نوران، تزينها ابتسامة ناعمة ونظرة فخر باردة… كمن يعلن انتصاره في صمت.
الجميع كان يرى كيف يعامل أحمد مرام كما لو كانت جوهرة نادرة. لكن ما لم يعرفه أحد، هو أن نوران لا تزال زوجته الشرعية.
ضمت نوران كفّيها في توتر، تتساءل: لماذا الآن؟ لماذا تظهر مرام في أكثر لحظاتها ضعفًا، وكأن القدر يتآمر عليها ليكمل إذلالها؟
قالت مرام بهدوء أشبه بالسمّ:
“ستخسرين الكثير لو بعتِ خاتمًا كهذا بهذه السرعة. إنه نادر وعالي الجودة.”
مدّت نوران يدها بخفّة وانتزعت الصندوق، وعيناها تقدحان جمرًا:
“لن أبيعه بعد الآن.”
مرام، بصوت رخيم متكلف:
“آه، مؤسف حقًا. أعجبني هذا الخاتم بشدة، وكنت على وشك تقديم عرض أكبر… فقط لأن بيننا معرفة. ألم تكوني مستعجلة، آنسة الهاشمي؟”
كانت كلماتها ملساء، لكنها مغلفة بالاحتقار. تجمدت ملامح نوران للحظة، ثم تذكّرت لماذا هي هنا أصلاً: الحاجة.
قال البائع، محاولًا التوفيق:
“آنسة، هذه خطيبة رئيس مجموعة القيسي. صدقيني، لو أعجبها الخاتم، ستدفع لك ثمنًا ممتازًا، ولن تنتظري الإجراءات أو المفاوضات.”
كان وقع كلماته كالسكاكين على أذني نوران. الجميع يناديها “السيدة القيسي”، رغم أن تلك الصفة كانت تخص نوران يومًا ما.
قبل عام، نظرت مرام إلى نوران بازدراء وقالت: “أحمد لن يطلّقك، استسلمي.” والآن، العالم كله يتصرف كما لو أن مرام هي الزوجة، ونوران مجرد ذكرى باهتة.
داهمها شعور بأن زواجها لم يكن إلا جزءًا من خطة، وأنها كانت الغافلة الوحيدة وسط مسرحية محكمة.
ابتسمت مرام، وتقدمت خطوة:
“ما رأيك أن نختصر الأمر؟ حددي سعرًا، وسأدفعه فورًا، سيدة الهاشمي.”
كان في لهجتها ازدراء مصقول، جعل أعصاب نوران تتوتر.
قالت ببرود:
“لن أبيعه.”
لكن مرام لم تتراجع، بل مالت نحوها وقالت بصوت خافت:
“لقد وصلتِ إلى الحافة، أليس كذلك؟ لا تخبريني أنك ما زلتِ تلوّحين بكلمة كرامة. لو كنت مكانك، لبعتُه دون تردد. أليس العناد من صفات الأقوياء؟”
ضحكت نوران بسخرية، وقالت:
“آه يا مرام الزهراني، سرقة ما لا يخصك لا يمنحك الحق بامتلاكه. هل فكرتِ في سرقة بنك؟ ربما تجدين نفسك هناك أكثر.”
وبينما تصاعد التوتر، انطلق الخاتم من العلبة في قوس رشيق وسقط على الأرض، محدثًا رنينًا معدنيًا خافتًا. اندفعت نوران نحوه، لكنه تدحرج بعيدًا، حتى توقف عند حذاء رجالي جلدي أنيق وقف عند مدخل المتجر.
انحنت نوران لتلتقطه، لكن قبل أن تلمسه، سقطت قطرة ماء باردة على عنقها العاري، فأرسلت قشعريرة مرتجفة عبر جسدها.
رفعت رأسها ببطء.
كان أحمد.
واقفًا أمامها، يحمل مظلة مفتوحة، وقطرات الماء تتساقط منها. معطفه الأسود الصوفي أضفى على ملامحه وقفته مزيدًا من الهيبة.
تجمّدت نوران. عادت بها الذاكرة إلى أول مرة رأته فيها، شابًا في العشرين، يرتدي قميصًا أبيض، واقفًا في الملعب تحت الشمس. لكنه في عينيها، كان واقفًا داخل قلبها، لا خارجه.
الآن، كانت أنحف، أضعف، أكثر هشاشة. بينما هو بدا كأنه لم يتغيّر، بل ازداد صلابةً وجاذبية.
توقفت يدها في الهواء. وبينما كانت ما تزال منحنية، رفع أحمد قدمه بلا تردد، وداس على الخاتم، ومشى متجاوزًا إياها دون حتى أن ينظر.
تجمّدت في مكانها. ذلك الخاتم، هو من صمّمه، وهو من وضعه في إصبعها. لم يكن ثمينًا، لكنه كان فريدًا. كانت تنزعه فقط أثناء الاستحمام. أما اليوم… فكانت على وشك بيعه فقط لأنها بلغت آخر نقطة في صبرها وكرامتها.
لكنه لم يدس فقط على الخاتم. لقد داس على ما تبقى من ذكرياتها… من حبها.
تقدمت مرام، وأمسكت بذراعه برقة:
“أحمد، كنت أختار المجوهرات حين رأيت السيدة الهاشمي تبيع خاتمها.”
لم يظهر على وجهه أي تعبير. نظراته كانت جامدة، باردة، حين التقت بنوران التي كانت تحبس دموعها بكل ما أوتيت من قوة.
قال بلهجة صريحة:
“هل تنوين بيع هذا الخاتم؟”
هزّت رأسها بتماسك مكسور:
“نعم. هل تودّ شراءه، يا سيد القيسي؟”
ابتسم ساخرًا، ثم قال:
“كنتِ تكررين دومًا كم يعني لك هذا الخاتم. كنت أظنّك صادقة… لكنكِ أثبتِّ أن ما لا يراه الآخرون مهمًا، لا قيمة له في نظرك.”
بينما كانت نوران على وشك الرد، طعنها ألم حارق في معدتها. ومع نمو الورم، لم يعد الألم مجرد وخزٍ عابر، بل تحول إلى شيء أشبه بسكينٍ يمزق أحشاءها من الداخل.
رفعت بصرها نحو الثنائي الواقف أمامها — رجلٌ وامرأة، وكأنهما خرجا من إعلانٍ مصوّر: هو بمعطفه الأسود، وهي بثوبها الأبيض، يتكاملان تحت الأضواء الفاخرة كصورةٍ لا مكان لها في واقعها المتآكل.
في تلك اللحظة، أدركت نوران أنها فقدت القدرة على تفسير أي شيء. الكلمات اختنقت في حلقها.
الرجل الذي تغيّر قلبه، لن يعنيه حتى لو قدمت له قلبها على طبق.
كتمت أنينها، وانحنت لالتقاط الخاتم من الأرض. كانت حركتها بطيئة، لكن عينيها لم ترفعا عن وجهه. سارت بخطى ثابتة نحو المنضدة، واستعادت العلبة وشهادة الملكية. لم تكن مستعدة لمنح أحمد شرف رؤية ضعفها، مهما كانت تمزقها الآلام.
وعندما مرّت بجانبه، همست بصوتٍ منخفض، لكنه حادّ:
“تمامًا كما فعلتَ، كنت أراه كنزًا في الماضي… أما الآن، فهو مجرد معدن أستبدله بالمال.”
لاحظ أحمد شيئًا غريبًا. جبينها يلمع بعرق بارد، ووجهها شاحب كأن الدم انسحب منه فجأة. كانت تتنفس بصعوبة، ورغم ذلك، قاومت الانحناء، كأنها تسير على حافة انهيار.
مدّ يده وأمسك بذراعها، وهمس بقلق لم يعرف من أين جاء:
“نوران… ما بك؟”
انتزعت ذراعها من يده بقوة غير متوقعة، وقالت دون أن تنظر إليه:
“لا علاقة لك بي.”
ثم تابعت سيرها، تقاتل بكل ما تبقى من كرامة، لتظل واقفةً مستقيمة. لم تلتفت. لم تترجف. فقط اختفت.
ظل أحمد واقفًا، يحدق في الفراغ الذي تركته خلفها. لقد كان هو من تخلّى عنها. فلماذا إذًا يشعر وكأن شيئًا انكسر داخله؟
ابتعدت نوران عن المتجر وتسللت إلى ركنٍ مهجور بين المباني، حيث أسندت ظهرها إلى جدارٍ بارد. أخرجت من حقيبتها شريط المسكنات بأصابع مرتجفة. لم تكن هذه الأدوية مخصصة لعلاج السرطان، لكنها كانت كل ما تستطيع تحمّله.
“أفضل من لا شيء…” تمتمت وهي تبتلع القرص بصعوبة، وعيناها تتابعان تساقط المطر بغزارة خلف الزجاج.
كانت ترتجف. لم يكن من المطر، بل من السؤال الذي يعصف بداخلها:
“هل هذا هو الخيار الوحيد الباقي لي؟”
كانت هذه آخر لحظة تتمنى أن تصادف فيها أحمد، لكنها مجبرة. لا وقت للضعف. كان عليها أن تفعل ذلك لأجل والدها.
بعد أن عادت إلى المنزل وغسلت آثار اللقاء المهين عن جسدها، غيّرت ملابسها واستقلت سيارة أجرة نحو وجهتها التالية: فيلا الزهراء.
ذلك العنوان لم يُذكَر منذ أكثر من عشر سنوات، منذ أن اتصل بها ذلك الشخص مرة واحدة فقط بعد عودتها إلى الريف. لم يلتقيا منذ الطفولة. لم تكن تعرف شيئًا عن حياتها، ولكن بناءً على فخامة الفيلا، خمّنت أنها بخير… بل أكثر من بخير
عند وصولها، فتحت لها الخادمة الباب بتردد. وبعد أن أوضحت نوران سبب الزيارة، طُلب منها الانتظار في غرفة المعيشة.
دخلت الغرفة… وكان الزمن كأنه توقّف.
كانت هناك امرأة رشيقة تجلس بأناقة، عيناها الواسعتان تتابعان خطوات نوران بتأمل.
“نوران…” قالتها بصوتٍ ناعم، وعيناها تغمرهما الدهشة والحنين.
لكن نوران وقفت مكانها، لا تحرك شفتيها، ولا تتقدم خطوة واحدة.
رغم أنها كانت تُدعى بذلك الاسم آلاف المرات في حياتها، إلا أن نطقه منها تحديدًا… كان مختلفًا.
ورغم كل ما في داخلها من شوق ووجع… لم تستطع أن تنطق الكلمة الوحيدة التي تليق بالموقف.
لم تستطع أن تقول: أمي.

الرواية كاملة من هنا

التالي رواية حتى بعد الموت الفصل 4

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top