الفصل 40
في الماضي، كان الرجل ذاته الذي تطوّع بقلبه وروحه لتمضية نصف عام كامل يعتني بحديقة ورودها فقط لأنها قالت له ذلك في سبيل المداعبة، على استعداد أن يحرث الأرض بيديه لأجلها، أن يسقي وردها من تعبه، أن يُنسى في ظلها. أما الآن، فلم يعد يملك الرغبة أو حتى الصبر لقضاء بضعة أيام قليلة معها خارج البلاد. ذلك الشغف انطفأ، وتلك اللهفة اختفت، كأنّ شيئًا لم يكن.
عندما أحبّها، كان مغرمًا بها حدّ الجنون، يتتبع خطواتها كظلها، يقرأ عينيها قبل أن تنطق، يحتفل بضحكتها كأنها عيد. أما الآن، بعدما خمدت تلك المشاعر في قلبه، تحوّل إلى شخص بارد، جامد، لا يكترث، كأنها لم تكن يومًا كل عالمه.
شدّت نوران طرف قميصه بخفة يائسة، نظراتها تنطق بالرجاء:
– “لم يبقَ لديّ الكثير من الوقت… هل يمكن أن تمنحني القليل منه؟ فقط القليل، أرجوك.”
ردّ عليها بنبرة خالية من التعاطف، كأن قلبه تحجّر فجأة:
– “نوران، لا تلعبي على وتر الشفقة… لا تستغلي الموقف.”
كان يظنّ أنها تشير إلى الشهر الذي كانت قد ترجته لمنحه إياه، شهر واحد فقط، لا أكثر. ومع ذلك، لم يتردد لحظة في وأد طلبها، في قتل فكرتها، في إغلاق الأبواب أمامها دون نقاش.
– “أستغلّ الموقف؟” تكررت كلماتها بدهشة ممزوجة بالمرارة، ثم ابتسمت بسخرية حزينة وقالت:
– “هل تظنّ أنني أضيّع وقتك؟ في الواقع… أنت الذي تضيّعه في الاستعداد لخطوبتك، أليس كذلك؟”
كانت كلماتها كسهام تطعن في صمته. ومع ذلك، لم يرمش حتى. كانت أطراف أصابعه الطويلة تنقر بخفة على سطح الطاولة، كأنّه يُعدّ الدقائق التي تودّ أن تسرقها منه. ثم قال ببرودٍ متعمد:
– “أخبرتكِ من قبل، أنا مقبل على الخطوبة.”
رغم أن ملامحه ظلت خالية من أي تعبير، إلّا أن عينيه كانتا تنضحان بشيءٍ خفي، تحدٍ خافت، رفض أن يُظهره بوضوح.
كانت هي من طلبت ذلك الشهر. هي من توسلت. كانت ترى أنها تستحقه، أنّ ذلك أقل ما يمكن أن يُمنح لها بعد كل شيء.
نظرت إليه طويلًا بصمت، ثم رسمت ابتسامة صغيرة على وجهها كأنها تُودّع آخر أمل لها فيه، وقالت:
– “اعذرني على تمنياتي… آسفة إن كنت قد أزعجتك.”
فتحت الباب بهدوء وخرجت. لكنها لم تبتعد كثيرًا، حتى سمعته يناديها من خلفها بنبرة لم تكن تتوقعها:
– “اخترِي مكانًا محليًا.”
توقفت في مكانها، كأن قلبها توقف لحظة معها، ثم استدارت ووجهها يشعّ بالإثارة الطفولية وقالت:
– “إذن… إلى موهي!”
خرجت نوران من المكان وهي تكاد تطير من الفرح. لم تكن متأكدة من إمكانية رؤية الشفق القطبي في تلك البلدة الصغيرة، لكنها لم تهتم كثيرًا؛ كان كل ما تريده هو قضاء ما تبقى من أيامها برفقته. فقط أن يكون بقربها، هذا وحده يكفي.
في تلك الليلة، كانت الساعة متأخرة. كان نائمًا إلى جانبها، جسده ساكن. أما نوران، فلم تستطع النوم. التفتت بجسدها بحذر، محاولة أن لا تُحدث ضجيجًا. كان هناك بحرٌ من المسافة بين جسديهما، كأنهما على شاطئين متقابلين.
لم تجرؤ على الاقتراب منه، كانت تخشى أن يلمح الجرح الذي يلف ذراعها.
حين استدار على فراشه، تولى الجانب الآخر، كأن وجودها لا يعني له شيئًا. لم يلتفت. لم يسأل. لم يشعر.
حدقت نوران في صمت عبر نافذة الغرفة، تتأمل الليل الداكن، محاولة عبثًا أن تجد طمأنينة تنام في ظلها.
في صباح اليوم التالي، خرج إلى عمله باكرًا. أما هي، فقد انشغلت بشيء آخر تمامًا. كانت تحمل في قلبها رغبة عميقة في التكفير عن ذنب والدها في أيامه الأخيرة. لذلك، تبعت العنوان الموجود في الوثيقة وذهبت إلى مستشفى للأمراض النفسية، هناك حيث تقيم إحدى الضحايا… بيل سامى.
المكان لم يكن كأي مستشفى عادي. بُني كحصن أكثر منه كمكان للشفاء. كان الصمت يلف الأروقة، وكأن أنفاس الجنون تختبئ خلف الجدران. الحراس هناك كانوا يرتدون معدات واقية، يتنقلون بحذر. بدا الأمر وكأن حربًا قد تندلع في أية لحظة.
رافقتها ممرضة صامتة إلى غرفة بيل، وكررت عليها التنبيه بعدم الاقتراب كثيرًا من المريضة.
كان لبيل شريكة في الغرفة، لكن نوران لم تُعرها الكثير من الانتباه حين رأت بيل، وابتسمت رغم كل شيء. بيل، تلك الفتاة التي التقتها سابقًا في مسابقة للابتكار، لم تكن نفسها. سابقًا، كانت مشعة بالحيوية، عيناها تنبضان بالشغف. الآن، كانت تحتضن ركبتيها وتنظر إلى النافذة بنظرات زجاجية، شاردة.
– “بيل…” نادتها نوران بلطف، كأنها تحاول إخراجها من عالمها البعيد.
استدارت الفتاة على السرير ببطء، التفتت نحو نوران بعينين تائهتين، ثم أمسكت يدها فجأة وهمست بفزع:
– “اصمتي… أحدهم يحاول أخذ طفلي!”
تجمدت نوران في مكانها، ثم نظرت بهدوء إلى الوسادة التي تحتضنها بيل، وأومأت برأسها متفهمة. قالت بهدوء:
– “من يحاول أخذ طفلك؟”
وفجأة، دوّى صوت الكعب العالي في الردهة:
– “طق، طق، طق.”
تجمدت بيل وارتعشت بشدة، ثم اندفعت بسرعة لتختبئ خلف الستائر، تهمس بفزع:
– “إنها هنا… جاءت لتأخذ طفلي!”
قبل أن تنطق نوران، ظهرت عند الباب امرأة ترتدي معطفًا أبيض وبطاقة تعريف مكتوب عليها “مديرة”، وقالت بحدة دون مقدمة:
– “الحالة النفسية للسيدة بيل غير مستقرة سريريًا. لا يسمح لها باستقبال الزوار. آنسة الهاشمي، يُرجى المغادرة فورًا.”