رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك الفصل 47
ليان، التي كانت يومًا طالبة طب واعدة، لم تكن تجهل ما تعنيه كلمات مثل “الكيماوي” أو “السمّ المحسوب”. كانت تدرك أن رحلة العلاج ليست مجرد مواجهة للخلايا السرطانية، بل معركة شرسة مع الجسد والروح، مع الألم والإعياء، مع الأمل الذي يتآكل ببطء. لذلك، حين أخبرتها نوران بقرارها، لم تُجادلها، بل أومأت بتفهمٍ عميق.
قالت بصوت منخفض: “أنا أتفهمكِ تمامًا… ليس الجميع ينجو من العلاج، أحيانًا يفتك العلاج أكثر مما يفتك المرض نفسه.”
كان ذلك الاعتراف كجدار سقط عن صدر نوران، لكنها لم تفرح. قالت بهدوء يشبه الندم:
“لم أكن أستطيع أن أطلب من نفسي احتمال الألم… لم يكن لدي هذا النوع من الشجاعة.”
ثم، دون مقدمات، أحاطت ليان خصر صديقتها بذراعيها من الخلف، ودفنت وجهها في كتفها، ثم بدأت تبكي. دموعها انسابت على بيجامة نوران حتى ابتلّت.
قالت وهي تشهق بصوت مكسور:
“كم كنت وحيدة… كم كنت قوية دون أن ألاحظ. آسفة، آسفة لأني لم أكن إلى جانبك في كل هذا الألم.”
تنهدت نوران، نظرت إليها بحنو، وقالت:
“أنا أفضل الآن… أو على الأقل، أحاول. في الأيام الأخيرة، تحسّنت حالتي قليلًا. لا أريد الرحيل بعد، لا بهذه الطريقة. كنت أريد أن يكون أحمد بجانبي… لكنه اختار أن يسلك طريقًا آخر. ربما انتهى أمرنا تمامًا.”
قطبت ليان حاجبيها حين سمعت اسمه. شيء ما فيها تحرّك بحدة. قالت بقلق:
“نوران، هل تذكرين الفيديو؟ قلتِ إن أحدهم شوّه قبر ليا، وإن هناك تسجيلًا لكِ وأنتِ تمسكين مطرقة… هل يعقل أن يكون الأمر مدبّرًا؟ هل لُفّق لكِ كل ذلك؟”
ارتجف صوت نوران، وهمست كأنها تخاطب نفسها:
“أنا متأكدة… لا أحد يمكن أن يفعل بي هذا سواها. مرام. منذ وافق أحمد على مرافقتها، تغيّر كل شيء. بعد شهر واحد فقط، حدثت تلك الفضيحة… لا يمكن أن تكون مجرد مصادفة.”
هتفت ليان بانفعال:
“وإذا كنتِ متأكدة، كيف تبقين ساكنة؟ كيف لا تحاربين؟”
أجابت نوران بمرارة:
“لقد استخدمت كل الأساليب القذرة لتفريقنا، وأنا؟ لم أكن دائمًا بريئة. لكن مهما فعلت، أحمد كان دومًا يقف إلى جانبها. في البداية، حاولت الدفاع عن نفسي، ثم أدركت أن الحب لا يُقاس بالحقائق. من يختار غيرك، لا يحتاج لأدلة ليرحل.”
هدأت ليان قليلاً، ثم قالت:
“لكن نوران، لو كانت مرام هي من دنّست قبر ليا، فهذا ليس فعلًا يمكن تجاهله. الطلاق لا يُنهي الحساب. يجب أن تحاسَبيها.”
هزّت نوران رأسها، بنظرة شاردة:
“مرام ليست العقبة. أحمد لم يشفَ من موت أخته. هو عالق هناك… في الماضي. كل شيء انكسر منذ دفن ليا. ولا شيء يعيد العلاقة للحياة سوى معجزة. ونحن لم نُخلق للمعجزات.”
قالت ليان بإصرار:
“لا يحق له أن يجعل موتها سيفًا يسلطه عليكِ متى شاء. لا يحق له أن يُخضعكِ باسم الذنب!”
ثم تابعت بنبرة موجعة:
“في النهاية، خانكِ. تخلى عنكِ وعن طفلكِ، وذهب لينقذ مرام. أنا لا أنكر أنه كان يومًا شخصًا جيدًا… لكنه لم يعُد كذلك معكِ. وقد حان الوقت… حان الوقت لتغلقي هذا الباب.”
قالت نوران، وكأنها تحاول أن تصدّق:
“لكنني لا أكرهه. لا أستطيع أن أكرهه.”
“لستِ مطالبة بكرهه… لكنكِ مطالبة بإنقاذ نفسك.”
ثم ابتسمت ليان بتماسك، وأردفت:
“أنتِ تعيشين هذه الحياة مرة واحدة فقط. حتى لو كان والدكِ هو السبب في وفاة ليا، فإن الذنب ليس إرثًا تورثينه. لا أحد يملك الحق في معاقبتكِ على ما لم ترتكبيه.”
تأملت نوران وجهها قليلًا، ثم تمتمت:
“سألتِني إن كنتِ تجاوزتِ جوش… وأجبتِ بأنكِ ستفعلين يومًا ما.”
أومأت ليان:
“وأنتِ أيضًا، يجب أن تبدئي بخطوتك الأولى. عيشي أيامكِ لنفسكِ، ولو بقي لكِ يوم واحد فقط.”
“أعيش لنفسي…” ترددت الكلمات على لسان نوران، وكأنها تسمعها للمرة الأولى.
لكنها لم تستطع النوم تلك الليلة. كوابيسها كانت أكثر واقعية من أي وقت مضى. رأت أحمد بعينين مظلمتين، يمد يده ويخنقها. استيقظت فزعة مرات متكررة، حتى بزغ الفجر على جسد مرهق.
جلست على سريرها، ولمست رقبتها بصمت، حيث كانت أصابعه تمسكها في الحلم. لم تعد تريد أن تعيش معه، لكنها كذلك لا تحتمل أن تتحول علاقتهما إلى عداوة.
نظرت إلى ليان النائمة بطمأنينة، ثم خرجت من الغرفة بهدوء لتتوضأ وتتهيأ للخروج.
في الخارج، كانت المدينة مغطاة بالثلج، بيضاء ساكنة كأنها عالم جديد. حتى البحر بدا هادئًا، يتحرك بموجات خفيفة تشبه الأنفاس المتقطعة.
في السماء، طيور النورس تعاند الريح، وفي الأفق، أطلقت السفن أبواقها، تصرخ في فضاء لا يردّ الصدى.
كانت تلك اللحظة فاصلة. شعرت أن الأرض لم تتوقف عن الدوران، رغم أن أحمد لم يعد فيها.
قررت أن تواجهه للمرة الأخيرة. أرسلت له رسالة قصيرة. هذه المرة، لم تكن ضعيفة. هذه المرة، جاءت كما وعدت نفسها.
ارتدت سترة بيضاء تلف جسدها، ووضعت قبعة صوفية تُغطي شعرها، ووشاحًا سميكًا يخفي رقبتها الرقيقة، حيث كل خدش يترك أثرًا.
كانت واقفة تحت الثلج كأنها تمثال من نور، صلبة، صامتة، لا تُكسر.
عندما رأته، لم تشعر بشيء.
لأول مرة، كانت مشاعرها لها وحدها. لم تكن تنتظر منه شيئًا. كانت مستعدة لوداع أخير، أو لصمت نهائي. لكنها، على الأقل، خرجت من الحكاية واقفة.