الفصل الرابع
غادرت نُهى عندما كانت نوران في الثامنة من عمرها.
كان عيد ميلاد جاد، وكانت نوران في غاية السعادة، متشوّقة للعودة إلى المنزل والاحتفال بعيد ميلاد والدها مع عائلتها. لم تكن تعلم أن ما ينتظرها هو طلاق والديها.
ركضت نوران خلف والدتها، تهبط الدرج على عجل حتى سقطت. لم تُدرك حتى أنها فقدت حذاءها؛ كل ما كان يشغلها هو التشبث بساقي والدتها والصراخ:
“أمي، لا تذهبي!”
انحنت نُهى، المرأة الرشيقة، وربتت على خدي نوران، وقالت بأسى:
“أنا آسفة.”
“أمي، أنا الأولى على صفي، لم تري أوراق اختباري بعد… عليكِ توقيعها. لا تتركيني، سأكون فتاةً صالحة، أعدكِ ألا أذهب إلى مدن الملاهي مجددًا. لن أغضبكِ، سأستمع لكِ… أرجوكِ!”
بكت نوران الصغيرة بكل ما يخطر في بالها، راجيةً أن تتراجع نُهى. لكن الأخيرة أخبرتها ببساطة أن زواجها من والد نوران لم يكن سعيدًا، وأنها وجدت سعادتها الحقيقية في مكان آخر.
لاحقًا، رأت نوران رجلًا غريبًا يساعد نُهى في وضع أمتعتها في السيارة، ثم غادرا معًا، متشابكي الأيدي. طاردت نوران سيارتهما لمسافة ميل، حافية القدمين، قبل أن تتعثر وتسقط أرضًا.
كانت قدماها وركبتاها مجروحتين، تنزفان، بينما كانت تحدق في الخطوط الباهتة للسيارة التي ابتلعتها المسافة.
في ذلك الوقت، لم تفهم ما حدث. أما الآن، وقد كبرت، أدركت أن والدتها اكتشفت خيانة والدها، فقررت الطلاق، تاركةً له كل شيء، بما في ذلك نوران.
لم تتواصل نُهى معها أبدًا، وكانت تكرهها بشدة، حتى أنها تمنّت ألا تراها ثانية.
لكن للقدر طرقه الغامضة، ولم تستطع نوران إيقافه. جفّ حلقها، وتحولت قدماها إلى رصاص.
فهمت نُهى ما يدور في ذهن ابنتها، اقتربت منها وجذبتها لتجلس بجانبها:
“أعلم أنكِ تكرهينني. كنتِ صغيرة آنذاك، ولم تكن الأمور بهذه البساطة كما تبدو. لم أستطع شرحها لكِ.”
داعبت خدّ نوران، وتابعت:
“انظري إلى نفسكِ، لقد كبرتِ. نوران، الآن وقد عدت، سأبقى هنا إلى الأبد. أعلم أن شيئًا ما حدث لعائلة الهاشمي، لكن لا يهم، لأنني سأعتني بكِ.”
في تلك اللحظة، أدركت نوران أن ما ظنّت أنه كراهية لم يكن يستحق الذكر. تقطّع صوتها وهي تنادي:
“أمي…”
قالت نُهى بابتسامة دافئة:
“عزيزتي، بما أنكِ هنا، عليكِ البقاء وتناول العشاء. لقد اعتنى بي كريس جيدًا خلال السنوات الماضية. لديه ابنة تكبركِ بعامين، ستأتي مع خطيبها للعشاء. سأعرفكِ عليها لاحقًا.”
لكن لم تكن تلك ضمن خطط نوران. قاطعتها قائلةً:
“أمي، أنا هنا هذه المرة من أجل والدي. عائلتي مُفلسة، وقد أُصيب والدي مؤخرًا بنوبة قلبية، لكنني لا أملك المال لتكاليف الجراحة. هل يمكنكِ مساعدتي؟ أعدكِ بأن أعيد لكِ المال.”
لم تكن نُهى قد ردّت بعد، عندما سمعوا صوتًا مألوفًا عند الباب:
“آنسة الهاشمي، يبدو أنكِ في ضائقة مالية حقًا، لدرجة أنكِ جئتِ إلى منزلي لطلب المال؟”
كان الأمر كصفعة على وجهها. التفتت نوران بذهول نحو الباب.
من يمكن أن يكون غير مرام وأحمد؟
القدر كان يسخر منها مجددًا. لم تتخيل يومًا أن والدتها ستصبح زوجة والد مرام!
والأسوأ أن مرام وأحمد ضبطاها وهي تطلب المال.
لاحظ أحمد توترها، لكنه ظل هادئًا، غير مبالٍ.
وفجأة، قطعت صرخة طفل أجواء الحرج. كانت الخادمة تدفع عربة أطفال فيها توأم. وما إن بدأ الطفلان في البكاء، حتى التقط أحمد أحدهما بهدوء، يهدئه بمهارة.
شكّلوا صورةً لافتةً لعائلة سعيدة مكوّنة من أربعة أفراد. ولو كان طفل نوران لا يزال حيًا، لكان في مثل هذا العمر.
بدأت تشعر بالندم لقدومها إلى هذا المكان. كانت تتلقى الضربة تلو الأخرى، إحراجًا وإهانة. والأغرب أن أحد الطفلين لم يتوقف عن البكاء طوال اليوم. هرعت الخادمة لتحضير الحليب، لكن صراخه ازداد حدة.
بصبرٍ لافت، واصل أحمد تهدئة الطفل. “كن جيدًا، لا تبكِ.”
كان مشهد الرجل الطويل القامة وهو يحمل طفلًا بين ذراعيه بلطف يبعث على الدفء، حتى في خضم هذا التوتر. وعندما رأت نوران هذا الجانب الصبور والحنون فيه، خطرت لها فكرة فجأة.
بخطوات مترددة، اقتربت منه وحملت الطفل. بطريقةٍ ما، لم يمنعها أحمد. بل، وللدهشة، توقف الطفل عن البكاء وارتسمت على وجهه ابتسامة بريئة عندما ضمته نوران.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة، ولمعت عيناها. ثم بدأ الطفل يضحك ويتمتم:
“أما…”
مدّ يديه الصغيرتين يحاول الإمساك بزينةٍ كروية متدلية من قبعتها. كانت الطفلة مبتسمة، بعكس أحمد تمامًا.
كان الأمر وكأن شفرة مزّقت قلبها بلا رحمة. تلك اللحظة كانت القشة التي قصمت ظهرها وسحقت كل ما تبقى من عزيمتها.
ذات مرة، ظنّت أن أحمد يحبها بصدق. كان لطيفًا خلال السنة الأولى من زواجهما. لا تزال تتذكر كلماته وهمساته:
“نوران دعينا ننجب طفلًا.”
كيف كان بوسعها أن ترفضه؟
رغم أنها لم تُكمل دراستها، إلا أنها لم تتردد في الحمل. أرادت هذا الطفل.
لكن الآن فقط، أدركت الحقيقة. طوال الوقت الذي قضاه معها، كان يخونها مع امرأة أخرى في كل مرة يسافر فيها إلى الخارج بحجة العمل.
شعرت بالغثيان. أعادت الطفل إلى أحمد واندفعت نحو الحمّام، ثم أغلقت الباب خلفها.
لم تأكل شيئًا يُذكر اليوم، وعندما تقيأت، خرج منها مزيج من الدم والأدوية. امتلأ نظرها بالسائل القرمزي، وانهمرت دموعها على خديها.
“رائع… رائع جدًا”، فكّرت بسخرية.
زواجها لم يكن سوى مزحة منذ البداية. الآن أصبح كل شيء واضحًا، كل شيء كان مُخططًا له.
لهذا أنقذ مرام بدلًا منها عندما سقطتا في الماء ذلك اليوم. ولهذا كان مرافقًا لمرام عند دخولها في المخاض المبكر…
لأن الأطفال الذين كانت مرام تلدهم هم أطفاله!
وبعد لحظات، سمعت طرقًا خفيفًا على الباب.
“نوران هل أنتِ بخير؟” كان صوت نُهى.
غسلت وجهها، نظّفت آثار ما حدث، وخرجت من الحمّام.
نظرت إليها نُهى بقلق: “هل أنتِ مريضة؟”
قالت نوران بنبرة جافة:
“أشعر بالغثيان لمجرد رؤيتهما. أشعر بتحسّن الآن بعد أن تقيأت.”
ترددت نُهى قليلًا، ثم سألت: “هل تعرفين مرام؟ لطالما كانت تسافر كثيرًا. هل هناك شيء بينكِ وبين أحمد؟ هو—”
قاطعتها نوران بصوت بارد كالجليد:
“أعرفه. أحمد القيسي، رئيس مجموعة القيسي. من في هذا العالم لا يعرفه؟”
“نعم، إنه شاب لامع ومبدع.”
“بالفعل. لم يُطلّق بعد، لكنه متشوّق للزواج مجددًا. ليس كل الناس بجرأته.”
بدت نُهى حائرة:
“عن ماذا تتحدثين؟ إنه غير متزوج، فلماذا يحتاج إلى الطلاق؟”
لم تصل ابتسامة نوران إلى عينيها. قالت بتهكم ساخر:
“حقًا؟ ومن أكون إذًا إن لم يكن متزوجًا؟ سيد القيسي، لمَ لا تُخبر أمي من أكون؟”