رواية حتى بعد الموت الفصل 44

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 44

كان أحمد صامتًا، يسكنه وجومٌ ثقيل كغيمة ممتلئة بالدموع. بدا الحزن متغلغلًا في ملامحه لدرجة جعلت قلب نوران ينعصر ألمًا، وكأن أشواكًا تنمو بداخله، تخترقه كلما نظرت إليه.

قال بصوت منخفض يشوبه التوتر:
“أتمنى من كل قلبي ألا يكون الأمر له علاقة بكِ. لكنكِ كنتِ هناك لثلاث ساعات، نوران. أخبريني بصراحة، ماذا كنتِ تفعلين في المقبرة طوال ذلك الوقت؟”

شعرت نوران بالإهانة، كأن في سؤاله تشكيكًا في إنسانيتها. اعتبرت اضطرارها لتبرير نفسها أمرًا عبثيًا، فقالت بحدة مكسوة بالألم:
“أخبرتك أنني ذهبت لزيارة قبر جدتي. ماذا تتوقع مني؟ أن أضحك وأتسوق بينما لا أجد من أصارحه بأحزاني سوى جدتي المتوفاة؟ إنها اللحظة الوحيدة التي أكون فيها صادقة بالكامل، ولو مع شاهد قبر!”

صمتت لحظة، ثم تابعت بنبرة متحدية:
“وحتى إن شككتَ بي، فلتأتِ بدليل ملموس. ما هذا الجنون؟ إنه مجرد قبر، لا كرواسون يمكنني التهامه! سيتحطم ذراعي إن حاولتُ تحطيمه. إن كنتَ مصرًا على اتهامي، فأرني ما يثبت ذلك.”

سحب أحمد هاتفه ببطء، وعيناه لا تفارقان وجهها، ثم قال بهدوء يحمل غضبًا مكتومًا:
“انظري إلى هذا إذن… ما تفسيرك لهذه الصور؟”

ظهرت على الشاشة صورٌ جديدة، أوضح هذه المرة، تُظهر نوران وهي تمسك بمطرقة. حتى هي شعرت بالذهول، كما لو رأت شبحًا يحمل وجهها.

وفي لحظة ماضية، كان هناك رجل مسن، مسؤول عن صيانة القبور، سقطت منه أدواته حين رأى نوران، فبادرت بمساعدته لالتقاطها. لم تتوقع أن تُلتقط لها صور في هذه اللحظة المربكة، تُحرف نواياها وتُفسَّر بأسوأ شكل ممكن.

قالت بقلق واضح، تكاد كلماتها تتعثر من ارتجاف صوتها:
“لم أكن أفعل شيئًا خاطئًا. تحدثتُ لبضع دقائق فقط عند قبر ليا. حين غادرت، كان الشاهد سليمًا، لم يُمسّ. صدقني يا أحمد، ما الذي سأجنيه من هذا؟ لماذا أعبث بقبر فتاة ماتت منذ عامين؟”

نظر إليها أحمد طويلًا، وقد ازدادت شكوكه عمقًا، فرفع ذقنها برفق، وضغط بإصبعه على شفتيها قائلاً:
“فم جميل… لكنه مليء بالأكاذيب. هشام اعترف. أخبرني أنكِ سألته عن مكان قبر ليا، وأنكِ ذهبتِ تبحثين عن محقق خاص.”

ارتبكت نوران، وتراجعت خطوة إلى الوراء، لكنها لم تستطع إنكار الأمر. فتحت فمها ببطء، ثم قالت بانكسار:
“نعم… استعنت بمحقق خاص. لكنني لم أفعل ذلك بدافع الانتقام. أردت أن أفهم فقط، أن أعرف كيف أصبحتَ هكذا. عندما عرفت أن جودي وليا هما الشخص نفسه، لم أفعل شيئًا سوى وضع الزهور على قبرها.”

ثم أكملت بانفعال:
“بعدها زرتُ قبر جدتي. أحمد، أنا مريضة. لا أملك حتى القوة لصعود السلالم هنا. هل تظن أنني أملك طاقة تدمير شاهد قبر؟”

رمقها بنظرة حادة، وقال بمرارة:
“تريدينني أن أصدق هذا؟ ليا كانت جودي حتى يوم موتها، ولم يكن لها أعداء سوى عائلتك. من غيرك سيحمل حقدًا كافيًا ليُهينها حتى بعد وفاتها؟”

ردت نوران بضعف:
“ولماذا أفعل ذلك؟ ماذا سأستفيد؟”

أجاب بنبرة ساخرة:
“ألم تعيشي على كراهيتي لعامين؟ تُحمّلينني ذنب فقدان الطفل، وإفلاس عائلة الهاشمي. أنتِ غارقة بالكراهية. وعندما اكتشفتِ من تكون ليا، انفجرتِ. ليس من الغريب أن تكوني أنتِ من فعلها.”

ارتجف صوتها وهي تهمس:
“لم أكن أنا… أقسم لك…”

اقترب منها خطوة بخطوة، وصوته يقطر اتهامًا:
“طلبتِ الطلاق، ثم تراجعتِ فجأة وطلبتِ شهرًا إضافيًا. ماذا تنوين؟ هل تنتقمين لجاد؟”

انسابت دموع نوران على خديها دون مقاومة. كانت محاصَرة، عاجزة عن الدفاع عن نفسها، وكل تبريراتها تتهاوى كقصاصات ورقية في مهب ريح عنيفة. قالت بصوت مخنوق:
“لا… لم أفكر في ذلك أبدًا…”

لم يُعر كلماتها أي اهتمام. قبض على ذقنها مجددًا، لكن هذه المرة بقسوة، وعيناه غارقتان بخيبة أمل لا توصف.

“نوران، كنت أتمنى من كل قلبي ألا تكوني أنتِ. أقسم أنني توسلتُ لإيجاد أي خيط يُبرئك. لكن الأدلة لا ترحم. زرتِ مستشفى الأمراض النفسية اليوم، وماتت بيل بعدها. ما الذي دار بينكما؟ هل تظنين أن الانتقام سيعيد جاد؟”

كانت الاتهامات تتساقط فوقها كالحجارة، تُحطم ما تبقى من صبرها. لم تجد نوران ما ترد به. كل شيء ينهار حولها.

كانت ليا تمثل نقطة ضعفٍ قاتلة في حياة أحمد، وتدنيس قبرها جريمة لا تُغتفر في نظره. إنه تشويه لاسم عائلة القيسي، وإهانة للراحلة التي ما زالت تحيا في ذاكرته كأنها لم ترحل.

ومن يستطيع احتمال ذلك؟

وببطء، أغلق أحمد يده حول رقبتها، وكأن الغضب قد استبدّ به تمامًا، لا يرى أمامه إلا طعنة مزعومة، وغصة حب تحول إلى رماد.

قال بصوت متهدج:
“نوران، هل تعلمين كم كانت ليا بائسة بينما كنتِ تعيشين في عالم مخملي كأميرة مدللة؟ لقد ذهبتُ بنفسي إلى القرية التي نشأت فيها. لم أرَ في حياتي مكانًا أكثر قسوةً وفقراً. أرضٌ جافة، وبيوتٌ تكاد تنهار، وأرواحٌ فقدت الأمل. بعضهم لم يذق طعامًا دافئًا منذ ثلاثة أيام كاملة. وسمعتُ عن ليا… قالوا إنها بيعت كسلعة، حُبست في سقيفة خشب ضيقة، وعوملت كما يُعامل الكلب. وهي من سلالة القيسي! كان يُفترض أن تُعامل كأميرة، لكن العالم لطخها بالذل.”

“لقد عانت بصمت لسنوات طويلة، وعندما وصلت أخيرًا إلى ألدنفين… كانت قريبة جدًا من الخلاص. كان من الممكن أن تنقذيها لو أنكِ فقط… صمدتِ قليلًا.”

نوران لم تستطع الرد. بالكاد كانت تتنفس ويدا أحمد تطبقان على رقبتها. انهمرت دموعها، ودفعته بكل ما تبقى لها من قوة، محاولةً النجاة.

“ذلك الوغد… والدك. لوّثها، وتركها تختنق وتموت في صندوق خشبي بارد. هل تشعرين اليوم ولو بجزء مما شعرت به؟”

“اتركه… يذهب!” صرخت وهي تحاول النجاة، لكن أحمد كان غارقًا في غضبه.

كانت عيناه حمراوين، أشبه بعيني حيوان مسعور.

“نوران، كنت سأدعكِ تذهبين، لكنكِ اقتحمتِ عالمي من جديد.”
ثم بصوت هادئ، مرعب:
“هيا، لنذهب لرؤية ليا. إنها تشعر بالوحدة… وسينتهي عذابي عندما ندفن معًا.”

حين قال ذلك، أيقنت نوران أنه فقد عقله. ثم، في لحظة مؤلمة، لمس جرحها الذي خيطته بالأمس. انفتح الجرح، وبدأ الدم يتدفق على ثوبها الأبيض.

حين رأى أحمد الدم، شهق بصوتٍ خافت. أطلق سراحها. سقطت على الأرض وهي تلهث، تحاول التنفس.

اقترب منها، يريد أن يتحقق من إصابتها، لكنها انسحبت بسرعة. حدّقت به بعينين تملؤهما الحذر والخوف.

سحب يده ببطء، كأنما استعاد وعيه بعد حلمٍ كابوسي. تمتم:
“ذراعك…”

نهضت نوران، أمسكَت بمعطفها وارتدته، ثم غادرت دون أن تنظر خلفها.

ظنت أنها ماتت حينها. كانت تلك اللحظة أقرب ما تكون للموت، لكنها نجت.

خرجت إلى عاصفة الشتاء. كانت فكرة واحدة تسيطر عليها: الفرار.

في الداخل، حدق أحمد في يديه. كيف فعل هذا؟ كيف أوشك أن يقتل نوران؟

خرج بسيارته، قاصدًا اللحاق بها.

لكن نوران، المرتجفة، اختبأت خلف شجرة حين سمعت صوت المحرك. لم تكن تفكر. فقط تريد النجاة. رأت سيارته تمرّ وتختفي في الضباب.

كانت في مأمن… أخيرًا.

أخرجت هاتفها بيد مرتعشة. ترددت. ثم اتصلت.

جاء صوت ليان، دافئًا، مفعمًا بالحياة:
“اشتقتِ لي يا حبيبتي؟”

وكتمت نوران شهقاتها، وهمست:
“ليان… هل يمكنكِ أن تأتي لتأخذيني؟ أرجوكِ…”

جميع فصول الرواية من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 45

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top