الفصل 52
في تلك المرحلة من حياتها، كانت نوران تعيش على حافة الانهيار. كانت حاملًا، لكن لا شيء في حياتها يوحي بقدوم حياة جديدة. زواجها بدا وكأنه سفينة تغرق ببطء، في بحر من الصمت والخيانة. حاولت مرارًا إنكار ما يحدث، تجاهلت تصدعات علاقتها بأحمد، تمسكت بالأمل، وأغمضت عينيها عن التفاصيل الصغيرة التي كانت تصرخ بأن النهاية قريبة.
كانت تحاول أن تقنع نفسها أن أحمد لم يُخبرها بشأن شهادة تخرجها لأنه لم ير أهمية لذلك، أو لأنه نسي. لكن في أعماقها، كانت تعلم الحقيقة: هو لم يهتم. لم يُرد أن تشعر بالإنجاز أو الاستقلال. كل ما أراده أن تبقى معلقة به، كما يعلق أحدهم صورة جميلة على جدار لا يُطل عليه أحد.
نظرت إلى كامل الطرابيشي، رئيس الصف سابقًا، بابتسامة دافئة مريرة، وقالت برقة مصطنعة:
“نعم، لقد استلمتها. شكرًا لسؤالك.”
لم يبدُ مقتنعًا تمامًا، لكنه لم يُلحّ، بل تابع حديثه بلطف رجل يعرف متى يصمت ومتى يتكلم:
“لم نسمع عنكِ منذ أكثر من عامين. كنتِ دائمًا من ألمع الطلاب. ظننت أنكِ تكملين الدراسة في الخارج أو انضممتِ لمؤسسة طبية كبيرة. وسمعتُ عن وضع عائلتك… أنا آسف.”
ثم أردف بنبرة صادقة دافئة:
“نوران، نحن أصدقاء منذ أيام الجامعة. وإذا احتجتِ لأي شيء—وظيفة، توصية، دعم—فقط أخبريني. يشرفني أن أراكِ بيننا في مستشفى أوكلاند. أنتِ لا تزالين من القلائل الذين يُمكن الاعتماد عليهم.”
كلماته لم تكن مجاملة، بل كانت صدى لحقيقة قديمة. في عيونهم، كانت نوران لا تزال تلك الطالبة المتألقة التي تسابق الزمن لتتعلم، لتفهم، لتساعد. لكنها هي، في داخلها، لم تكن سوى ظلٍ لنفسها. سنوات من الإهمال والزواج المتآكل أطفأت نورها الداخلي.
قالت بهدوء وقد طغت المرارة على صوتها:
“أنا آسفة، لا أظن أن لديّ خططًا لذلك. في الحقيقة… لم يكن من المفترض أن أكون هنا الليلة. كنت فقط… أحتاج لاستنشاق شيء من الماضي.”
وفي اللحظة ذاتها، انسلّت كارين عبدالجبار كالأفعى من بين الحضور، وابتسامة خبيثة تعلو وجهها:
“سمعتُ أنكِ تزوجتِ، نوران. هل أصبحتِ ربة منزل؟ تطهين وتغسلين وتقومين بالواجبات الأسرية؟ إذا كان الأمر كذلك، فربما هذا الحدث لا يناسبكِ. نحن نحاول تجنّب إحراج كبار الشخصيات، كما تعلمين.”
لم يكن الحاضرون بحاجة لسماع المزيد ليشعروا بالتوتر. كان الجميع يدرك طباع كارين، وعداءها التاريخي مع نوران. لكن كامل لم يسمح بإهانة أحدٍ في حضوره، فرد بنبرة صارمة:
“هذا يكفي، كارين. الجميع هنا متساوون. هذا لقاء زمالة، وليس عرضًا للطبقات. نوران مرحب بها دائمًا، بل أكثر من كثيرين.”
زمان، في الشقة القديمة اللي فوق السطوح، كان عندهم بوتاجاز صغير بيشتغل نص الوقت. أمها كانت بتحلف بيه، تقول: “كفاية إنه شغال، مش زي قلبي.
تراجعت كارين قليلًا، لكن عينيها ظلّتا تطاردان نوران كما لو كانت فريسة تنتظر لحظة ضعف جديدة.
قال كامل بلطف:
“أعرف أن الوضع قد يبدو مربكًا، لكننا نحاول جمع نخبة الأطباء وخريجي الكلية لدعم مشروع ضخم. دعوتُ خبراء من خارج البلاد، وشركات أدوية، وحتى ممثلي مؤسسات بحثية. نوران، فكّري في الأمر كفرصة لإعادة التواصل، لا شيء أكثر.”
لم تستطع نوران أن تعتذر بعد هذا الكم من اللطف. بقيت واقفة، تحاول أن تبدو هادئة، لكن عقلها كان يعج بالأسئلة والذكريات والخوف.
وفي إحدى الزوايا، التقطت أذناها حوارًا جانبيًا قلب عالمها:
“سمعت أن مؤسس المشروع سيحضر الليلة. القيسي قدّم العرض الرئيسي. يقولون إن الرئيس أراد أن يُسعد خطيبته، لذلك بنى مستشفى كاملاً وسماها على اسمها!”
شعرت نوران وكأن شيئًا ينهار داخليًا.
قالت بتردد: “أي قيسي؟”
ضحكت إحداهن دون أن تنتبه لما يُخفيه وجه نوران:
“يا فتاة، هل تمزحين؟ أحمد القيسي طبعًا! من غيره يستطيع تمويل مشروع بمليارات الدولارات؟ لا أحد في ألدينفاين ينافسه.”
شعرت نوران بشيء ثقيل يسحق صدرها.
أحمد… كان هذا حلمها!
سنوات طويلة حلمت ببناء مستشفى يضم أجنحة للسرطان، للعلاج المجاني، للدعم النفسي. حلم نبع من معاناتها. لكن أحمد سرق الحلم، ونفذه باسمه، وأطلق اسم مرام على أحد الأجنحة.
مرام… التي كانت ذات يوم مجرد صديقة، ثم أصبحت زوجته.
ضحكت داخلها بسخرية لاذعة.
كم كان الأمر ساخرًا… أن يُخلد حلمها باسم امرأة أخرى.
شعرت بأن الدم يتراجع من وجهها. لم تفكر، فقط وقفت فجأة. شدّت مفرش الطاولة دون قصد، فانسكب النبيذ الأحمر على ثوبها. لم تبالِ، لم تحاول تنظيفه. كانت تنظر فقط إلى الباب، تحبس أنفاسها.
قالت بصوت مرتجف:
“كامل… حدث شيء. يجب أن أذهب الآن.”
أسرع كامل نحوها، يمسك بالمناديل، يحاول مساعدتها، بينما يحاول فهم ما يجري. وقبل أن ينطق بكلمة، انفتح الباب.
دخل أحمد القيسي، وإلى جانبه مرام، أنيقة، متألقة، تمسك بذراعه بثقة تعرف أنها امتلكت كل شيء.