الفصل 53
بفعل مفاجأة غير محسوبة من القدر، وجدت نوران نفسها وجهًا لوجه مع أحمد، في أكثر لحظاتها هشاشة وإحراجًا. لم تكن مستعدة لهذا اللقاء. لم تكن مستعدة لأي شيء.
ما لم تكن تعلمه هو أن روابط خفية بين العائلات كانت تعمل في الخفاء. عائلة الطرابيشي التي ينتمي إليها كامل كانت صديقة قديمة لعائلة الزهراني. وبينما كانت شركة القيسي تضع قدمها في مشروع مستشفى أوكلاند، دعى آل الزهراني آل الطرابيشي للانضمام كمساهمين. ومن هنا كان دور كامل واضحًا: البحث عن المواهب والكفاءات.
لكن وجود أحمد نفسه كان مفاجأة للجميع. لم يكن متوقعًا ظهوره، فرفع حضوره مستوى الحدث بأكمله. بدأ الضيوف يتهافتون للترحيب به، وكأنهم أمام نجم لا يُرى إلا في المناسبات النادرة.
رغم توتر اللحظة، لم يترك كامل نوران وحدها. ظل إلى جوارها، يُحاول تخفيف الموقف عليها. ناولها بعض المناديل الورقية بعد حادثة النبيذ، وتلامست أيديهما في لحظة عابرة، لكنها كانت لحظة مشحونة بكل ما يمكن أن يُقال دون كلمات.
كان الجو في الداخل دافئًا، خانقًا أحيانًا، ففتحت نوران أزرار سترتها. كشف الفستان الأبيض المحبوك تحتها عن أناقتها الهادئة. لم تكن تقصد أن تبدو ملفتة، لكنه كان الخيار الوحيد النظيف والمتاح لها في عجلة خروجها. ومع انكشاف رقبتها، ظهرت كأنها قطعة من النقاء، مثل غزال أبيض وسط غابة داكنة.
تعلّق أحمد بها للحظة. لاحظ غياب العلامة التي كان يضعها في عنقها، رمزًا لحبهما القديم، وكأنه تم محوه من الذاكرة والجلد معًا. تساءل داخله إن كانت نسيت كل شيء كما يحاول هو أن ينسى. لكن المشهد أمامه صفعه.
لم يكن يتوقع أن يرى يد كامل تُمسك بمعصم نوران بهذه الألفة. في البداية حدّق، مجرد نظرة خاطفة، لكنها حملت نبرة عدائية لم يخفِها تمامًا. شعر كامل بشيء غريب. رفع رأسه وحدّق، لكنه لم يجد سوى كارين تُصافح أحمد بحرارة. ربما كان يتخيل فقط؟ ربما هذا التوتر من أثر المناخ العام.
اقترب كامل بلباقة:
“سيد القيسي، يا لها من مفاجأة! لم نكن نعلم أنك ستكون هنا الليلة. يشرفنا حضورك. ومرام، هذه هي الطالبة التي أخبرتك عنها—نوران الهاشمي.”
ثم التفت إلى نوران:
“نوران، لا بد أنكِ تعرفين السيد أحمد القيسي بالفعل. رجل له وزنه.”
لكن نوران لم تنحنِ، لم تتراجع، ولم تبتسم. رفعت رأسها وقالت ببرود مشوب بمرارة:
“بالطبع أعرفه. وهذه هي خطيبة السيد القيسي، أليس كذلك؟”
ارتسمت على شفتيها ابتسامة بالكاد تُرى، لكنها كانت مغموسة بعداءٍ هادئ.
هزّ كامل رأسه وضحك بخفة:
“يا إلهي، هذا محرج. أظن أن كل شخص في هذه القاعة تابع أخبار خطوبتهما من وسائل الإعلام. التغطية كانت لا تُصدق.”
افتكرت وهي بتكتب في دفترها القديم، اليوم اللي اشتروا فيه أول ميكروويف. أبوها دخل البيت بيه زي البطل، وعيون أمها كانت بتلمع كأنهم كسبوا جايزة.
بينما تابع الحديث، اقتربت ليان بخطواتها الواثقة، وقد أنهت لتوها صفقة ناجحة. كانت تفيض بالحياة، بشعرها الوردي المربوط على شكل كعكة عالية، وحذائها العالي اللامع. بدت كمن لا يخشى شيئًا، لكن كلامها أذهل الحضور:
“أعتقد أن الجميع يعرف من هي خطيبة السيد القيسي… لكن هل يعرف أحد من كانت زوجته السابقة؟”
صمت غريب غلّف المكان. بعض الضيوف ابتسموا بتوتر، وآخرون نظروا نحو أحمد. في حين، تمتمت كارين بتوتر:
“ليان، رجاءً… لا تثرثري. السيد القيسي لم يسبق له الزواج.”
ردّت أخرى بسرعة:
“صحيح، الجميع يعرف أنه واقع في حب السيدة الزهراني.”
لكن ليان لم تتراجع. تقدّمت نحو أحمد، نظرت في عينيه وهمست بحدة لا تخلو من ألم:
“يقولون إنك وقعت في حب السيدة الزهراني. إذًا، كيف تصف ما فعلته بزوجتك السابقة؟ هل… هجرتها ببساطة؟”
نظر إليها أحمد نظرة قاتلة، ثم تمتم بكلمة واحدة كانت كالسيف في قلب نوران:
“لا تستحق الذكر.”
ثم اندفع بهدوء بين ليان ونوران، يشق طريقه بين الضيوف، كأن شيئًا لم يحدث. لكنه ترك خلفه انفجارًا عاطفيًا صامتًا. الجميع شعر بالارتباك، لكن ليان وحدها لاحظت أن نوران بدأت ترتجف، قبضتاها مشدودتان، وعيناها ممتلئتان بالغضب المكبوت.
لقد مزّقها بصمته، بكلمته، بتجاهله القاسي لماضيهما.
سنوات الحب، الخوف، العزلة، الحمل، الانكسار… أصبحت بالنسبة له مجرد “لا شيء”.
وفي الزاوية، شعرت ليان بالذنب. محاولتها لتحطيم مرام ارتدت عليها وعلى صديقتها. لقد كانت تعلم أن اتفاقية الطلاق بين نوران وأحمد تنص على السرية التامة بشأن زواجهما السابق. لكنها لم تستطع أن تظل صامتة.
اقتربت من نوران، ووضعت يدها على كتفها:
“نوران، هل تشعرين بتوعك؟ سأعيدك إلى المنزل، الآن.”