الفصل 57
أزعج إعلان كريم للحرب نوران على نحوٍ لم تتوقعه. كانت تعلم أن أحمد، رغم انتهاء علاقتهما رسميًا، لا يزال يتملكها بعينٍ حارسة وغيرة صامتة. لطالما قال لها يومًا: “لن أسمح لكِ بأن تكوني سعيدة بعدي.”
وكانت تعرف أنه لم يكن يمزح.
لكنها الآن، أمام الجميع، بين العيون والهمسات، وجدت نفسها محاصرة بين مطرقة الماضي وسندان الحاضر. رفض عرض كريم علنًا سيكون محرجًا، ليس له فقط، بل لها أيضًا.
أنقذتها ليان، كعادتها، بابتسامة واسعة، وقلب مشبع بالرغبة في الانتقام نيابة عن صديقتها.
قالت، بصوتٍ يحمل خفةً متعمدة:
“بالطبع يمكنك ذلك، كريم! لا يوجد علاج أقوى لتجاوز حبيب سابق من التعرف على شخص جديد. كريم، أنت شخص رائع، ولا شك أنك ستكون رفيقًا طيبًا. أتمنى حقًا أن تجد نوران رجلًا يستحقها… بعد كل ما عانته من ذلك الوغد.”
أخرجت كلماتها من فمها كرصاصات لامعة مغلفة بسكر، لكن نوران شعرت بحرارتها فورًا. جعلت ليان الأمر يبدو وكأن نوران وكريم في علاقة فعلًا، كأن شيئًا ما بدأ بالفعل.
“ليان!” نادت نوران بقلقٍ حاد، محاولة كبح هذه المهزلة.
لكن ليان، التي أعمتها الرغبة في كسر غرور أحمد، تجاهلت التحذير تمامًا. تابعت حديثها وكأنها تُجري ترتيبات رحلة.
“لماذا تتصرفين بهذا الخجل؟ هل تخططين حقًا لقضاء ما تبقى من حياتك وحدك؟ كريم ليس مثل ذلك الوغد! كريم، هل لديك وقت فراغ هذه الأيام؟ سأزور أنا ونوران بلدة موهي الصغيرة، لكنني قلقة قليلاً بشأن سلامتنا.”
أجاب كريم، بنظرة حنونة تتجاوز الكلمات:
“سيكون شرفًا لي أن أرافقكما. سأحرص على حمايتكما.”
ثم حدق في نوران بنظرة خفيفة من الاشتياق، وكأنها بالفعل تخصه.
رفعت ليان عينيها ببطء، لتقع نظرتها مباشرة على أحمد. وجهه جامد، لكن ملامحه متيبسة كمن ابتلع شيئًا مرًا. شعرت بالرضا لرؤية تلك النظرة تتسلل إلى وجهه.
لم يقل أحمد شيئًا. لم يعترض. لم يهاجم. لكنه اكتفى بأن يُشهر صمته، كعدوّ يتربّص دون كلمات، يذكرهم جميعًا أنه ما زال حاضرًا.
فجأة، تدخل أحد الضيوف – كامل، زميل سابق لنوران – بابتسامة عريضة ومبالغة ملحوظة:
“بصفتي زميلًا قديماً للسيدة نوران، يسعدني أنها وجدت السعادة من جديد. ويشرّفني أيضًا أن ألتقي بالسيد القيسي شخصيًا. سأرفع نخبًا للسيد والسيدة القيسي. أتمنى لكما زواجًا سعيدًا وطويل الأمد!”
ضحكت مرام ضحكة ناعمة مندفعة، ورفعت كأسها فورًا، متوهجة من الفرحة. كانت على وشك الشرب، قبل أن تلاحظ أن أحمد لم يرفع كأسه.
تجمدت ابتسامتها قليلًا، ثم قالت بلباقة محرجة:
“أحمد لا يشرب. لأسباب صحية، كما تعلمون.”
لكن الجميع كان يعلم، دون أن يُقال، أن أحمد لم يرفض الشرب احترامًا لعاداته، بل احتجاجًا صامتًا على الأجواء ذاتها. كأنه يرفض التصفيق لانتصار لم يشعر بأنه شارك في تحقيقه.
لم يُجب أحد. تركوه يتجوّل مع مرام بين الضيوف، يؤدي واجباته الاجتماعية بابتسامة متحفظة وملامح لا تنبض بالحياة.
وفي إحدى الزوايا، كانت كارين، التي لم تُخفِ يوماً عدم ارتياحها لنوران، تراقبها بحدة. تقدمت منها بنبرة ساخرة، وألقت كلماتها كالسمّ:
“لا تخبريني أنكِ ما زلتِ تنتظرين أحمد ليأتي إليكِ، فقط لأنكِ السيدة الهاشمي المتعجرفة. لماذا تقفين هنا؟ يجب أن تتوجهي بنفسك إلى السيد والسيدة القيسي، أليس كذلك؟”
كانت كلمة “السيدة القيسي” تضرب في صدر نوران كصفعة كل مرة تُقال أمامها.
أدارت رأسها ببطء لتحدّق في الزوجين الجديدين.
مرام ترتدي الأبيض. أحمد يرتدي الأسود. كأنهما توأمان متناقضان، لكن متناغمان بشكل مخيف.
بديا جميلين. ملائمين. وكأن كل ما كان بينها وبينه لم يوجد قط.
استعاد ذهنها ذكرى من الماضي البعيد… حين كانت زوجته.
لم يكن يأخذها إلى الحفلات، ولا يقدّمها للناس.
وحين واجهته ذات ليلة، سألته لماذا لا يظهر معها في المناسبات، أجابها بثقة باردة:
“أخشى عليكِ. هناك من يكرهني. أفضّل إبقاءكِ بعيدة عن الأنظار.”
صدقته. بل وبرّرت له ذلك، لأنه كان يُحبها. أو هكذا ظنّت.
والآن، وهي تراه يستعرض حياته الجديدة بلا تحفظ، عرفت الحقيقة المؤلمة:
لو كان يحبها حقًا… لأراها للعالم.
لما أخفاها كعار، بينما يُظهِر مرام الآن كجائزة.
كل ما قاله عن الثأر، عن أخته، عن المبررات… كانت مجرد أعذار تُخفي ندالته.
أدركت الآن، وبشكل لا رجعة فيه، أن أحمد لم يكن يومًا صادقًا.
كان رجلًا يبحث دائمًا عن مخرج، عن رفقة أخرى، عن امرأة تشبه المرحلة التي يعيشها.
وفي تلك اللحظة، رغم قربه الجسدي، بدا أحمد بعيدًا عنها كقارة غارقة في الضباب.
تحوّل في نظرها إلى غريب.
غريب.
والذكريات… كل الذكريات التي حملتها ككنزٍ صغير في صدرها، بدت فجأة رخيصة، باهتة، تتلاشى في ضوء الواقع.
سألت نفسها في مرارة:
كيف كنتِ بهذا الغباء؟
كيف صدّقتِ أن الرجل يمكن أن يكون ملاذًا دائمًا؟
كانت تظن أنها محظوظة لأنها أحبّت.
لكنها لم تدرك أنها كانت فقط… ضحية مؤقتة لنزوة عابرة.