الفصل 62
تسللت لمسة أصابع أحمد الباردة على خدها كزحف أفعى. لم يكن يهمُّ ما الذي كانا يتجادلان عليه هذه المرة، فقد دخل نوبة جديدة من نوبات جنونه المعتادة.
حين كانا في بداية علاقتهما، طلب منها ثلاث وعود لا نقاش فيها: ألا تكسر عهود زواجهم، وألا تسمح لأي رجلٍ بالاقتراب منها، وألا تتركه مهما حدث.
رأت في داخله بذور التملك منذ الأيام الأولى. لكنّها لم تدرك حجم الظلام الذي كان يخفيه، حتى جاء اليوم الذي قتل فيه عائلة بأكملها، وحوّلهم إلى رماد، فقط لأن أحدهم صفعها.
كان يغضب أيضًا عندما تتألق، عندما يراها تتوهّج خارج نطاقه. ذات مرة، خلال يوم رياضي، سقطت أرضًا، فحملها أحد أعضاء اللجنة الطبية على ظهره إلى العيادة. في تلك الليلة… أمرها بالاغتسال، وجعلها تقف تحت الماء حتى الصباح، رغم كل محاولاتها لتفسير ما جرى.
ورغم هذا الجنون، كانت تحبّه… حبًا لا يمكن وصفه. لأجله، انسحبت من الجامعة، وتوارَت عن الأنظار، حتى لا تُثير غيرته.
لم تكن تدري أن هذا الجنون سيتضاعف بعد الطلاق.
ورغم أن العلاج الكيميائي قد انتهى، إلا أن آثار الألم لم تختفِ من معدتها. كانت الغرفة باردة، والدش الجليدي قد جرّدها من أي دفء.
صرخت بارتجاف:
“أطفئه! أشعر بالبرد! الجو بارد جدًا، أحمد القيسي!”
لكنّه تجاهل توسلاتها، ودفع جسدها النحيل على البلاط البارد. ثم ألقى عليها نظرة متفحصة، وابتسامة مشؤومة.
“هل يُمكن أن يُدفئكِ عناقي؟”
صرخت بجنون:
“مختلّ! أنت مختلّ عقليًا! لعين!”
امتدت يدها المرتجفة نحو مفتاح المياه، لكنّه كان أسرع. أمسك بذراعيها وثبتها. الماء انهمر على جسدها المرتجف، وقوامها النحيل بدا واضحًا تحت الرداء المبتلّ.
كان هو الآخر مبلّلًا. قميصه الأبيض التصق بها، وبدا وجهه وسيمًا وخطيرًا في آنٍ واحد. اقترب منها أكثر.
ثم همس في أذنها بصوتٍ رخيمٍ مريض:
“نوران… ألم أقل لكِ من قبل، أنكِ لن تكوني لي حقًا، إلا بعد الطلاق؟”
قالت بصوتٍ مخنوق وهي تتوسل:
“دعني أذهب! أخبرتك أنه لم يحدث شيء بيني وبين كريم… رجاءً، لا تُفسد الأمر.”
ضحك بسخرية:
“ولماذا انتقلتِ إلى شقته إذن؟ هل كنتِ تعتقدين أن عائلة خطاب ستقف في صفكِ بعد انهيار اسم القيسي؟”
كان مخطئًا. شقتها ليست شقة كريم. لكن لم يكن لديها طاقة لشرح التفاصيل.
رفعت قبضتها اليسرى وضربته بها. كانت تعلم أن ضربها له لا يُجدي، لكنها لم تُرد أن تستسلم بالصمت.
صرخت في وجهه، والدموع تملأ عينيها:
“أنت من خانني! أنت من طلب الطلاق! وأنت من أعلن خطبتك على أخرى! إذا كنتَ مرتبكًا، فاسأل محاميك عن معنى الطلاق! بأي حقٍ تتحكم في حياتي؟!”
ثم أردفت بصوتٍ دامع:
“هل أنت طاغية؟! إذا قررتَ الخروج من حياتي، فما الذي يعيدك إليها كل مرة؟! إن كانت هذه فكرتك عن التعذيب… فأنا أفضل الموت!”
اقترب منها، وبدلًا من الرد، مسح دموعها بقبلة باردة. ثم قال بهدوء قاسٍ:
“منحتكِ فرصة… وأهدرتها. الطلاق مجرد ورقة. أما سيطرتي عليكِ… فستبقى إلى آخر نفس.”
فجأة، تذكّرت تلك الليلة. الليلة التي أبقاها فيها تحت الدش حتى كادت أن تنهار. وفي اليوم التالي، سألها إن كانت تريد المغادرة. كان مستعدًا لتركها ترحل، لو شعرت بالخوف منه.
حينها، لم تذهب. بل قالت له إنها ستبقى، في الصحة والمرض، ولن تتخلى عنه إلا إذا فرّق الموت بينهما.
نظرت إليه، محاوِلةً أن تتعرّف على ملامحه تحت الإضاءة الخافتة. وجهه الوسيم بدا غريبًا، كأنّها تراه لأول مرة.
قالت بصوتٍ هامس، لكنه اخترق ضجيج الماء وصمته:
“وماذا لو متُّ؟ هل ستكون سعيدًا؟ هل سيُشفى شيء فيك إن متُّ؟”
رواية حتى بعد الموت الفصل 62
