الفصل 64
أرخى أحمد قبضته عنها ببطء، وكأن لمسة يده الأخيرة تحاول أن تطفئ شيئًا من الغليان المشتعل في داخله. قال بصوت منخفض لكنه حازم، كمن يعلن حكمًا لا رجعة فيه:
“نوران… تذكّري جيدًا عقاب هذا اليوم.”
ارتجفت نوران، وركع صوتها المرتعش من خلف القيود الباردة:
“أحمد، أرجوك… أتوسل إليك! إن كنت غاضبًا، فصبّ كل غضبك عليّ. تعال إليّ، عذبني كما تشاء، لكن لا تؤذِ عائلة خطاب… لا تؤذِ أحدًا سواي! فقط… فقط حررني، لا تتركني هنا وحدي، أرجوك! الجو بارد، وأنا أرتجف، والماء لا يتوقف… أحمد، أطفئ الدش! لا أريد أن أمرض… ليس الآن…”
لكن أحمد لم يجب.
كل ما سمعته هو صدى خطواته الثقيلة وهو يغادر المكان، يتبعه صوت الباب وهو يُغلق برنينٍ مريع، كأنّه يُغلق على عقلها لا على جسدها فقط.
“لا تتركني وحدي! أحمد… أرجوك، لا تفعل!” صرخت بانكسارٍ مرّ، صوتها بالكاد يسمعه أحد وسط خرير الماء.
“أنا المخطئة! عاقبني، عاقبني كما تريد، فقط لا تتركني هنا في هذا الظلام. أشعر بالبرد. أرجوك، افتح الباب… دعني أخرج!”
ثم، فجأةً، عندما خفتت أنفاسها وتكورت في ركنٍ كقطةٍ مبتلّة خائفة، صاحت من جديد بصوت مبحوح يكاد يختنق:
“لا… لا تطفئ الأنوار! أنا خائفة، لا تفعل!”
كان هناك لحظة، واحدة فقط، شعر فيها أحمد بشيء يوشك أن ينهار في داخله، كأنّ صوته الداخلي يهمس له بالتراجع، بأن هذا كثير، لكنّه لم يسمح لذلك الشعور أن يترسخ. مرّ بداخله كطيفٍ خاطف… ثم انطفأ.
بدّل ملابسه ببطء. كل حركة كان يقوم بها كانت مدروسة، مقيّدة، كأنّه يخلع جلد رجلٍ لا يريد أن يعود إليه. ارتدى بذلة جديدة، أنيقة، كما لو كان يستعد لمناسبة لا يريد لأحد أن يعرف حقيقتها.
ثم خرج من جناحه وسار برشاقة نحو الردهة الواسعة، حيث كانت مرام تذرع المكان قلقًا، تبحث عنه بعينين تفضحان اضطرابًا حاولت مرارًا أن تُخفيه.
ما إن وقع بصرها عليه حتى تنفّست الصعداء، وازداد ارتياحها حين لاحظت أن نوران لم تكن برفقته.
قالت بصوتٍ متوتر:
– “أحمد! أين كنت؟ أقلقتني عليك… بحثت عنك في كل أرجاء المكان.”
ابتسم ابتسامة باهتة، خالية من أي دفء، وأجاب بفتور:
– “كنت في الحمّام. لمَ تسألين؟”
كان يُحكم إغلاق مشاعره بإتقان، وعيناه كجدارٍ أملس لا يسمح بعبور أي سؤال أو رجاء.
أمسكت بذراعه في محاولة للتشبّث بما تبقّى، لكنه حرّر نفسه بلطفٍ بارد، وقال دون أن ينظر في عينيها:
– “لديّ موعد هذا المساء. خذي السائق وعودي إلى المنزل بعد انتهاء الحفل.”
ترددت، ثم ابتلعت مرارتها في صمت، وهمست:
– “حسنًا… فقط كن حذرًا، لا تُفرط في الشرب، وأرجوك… لا تتأخر.”
كانت تجاهد لتُبقي ملامحها هادئة، ناعمة، بينما داخلها يغلي بأسئلةٍ لا إجابة لها.
لماذا رفض اليوم تسجيل زواجهما في البلدية؟
لماذا يُصرّ على تأجيل كل ما يتعلّق بعلاقتهما، وكأنها ظلّ مؤقّت، لا أكثر؟
لكنها، كعادتها، اختارت الصمت… والتظاهر بأنها “الشريكة المتفهّمة”، تلك التي تبتلع كرامتها مقابل توقيعٍ على ورقة زواجٍ موهوم.
قال ببرود:
– “حسنًا.”
ثم غادر دون أن يلتفت.
وما إن اختفى، حتى مسحت مرام ابتسامتها المصطنعة عن وجهها كما يُمسَح قناعٌ ثقيل.
حدّقت في بدلته الأنيقة، وفي العطر المختلف الذي اختاره هذه الليلة، وراودها الشك:
هل تأنّق لأجل “الخطوبة” التي سيحضرها؟
أم لأجل “نوران”؟
وفجأة، وسط الزحام، تقدّمت امرأة بخطًى واثقة، وكعبٍ عالٍ أحدث صدى مدوّيًا في الردهة، واصطدمت بها بلا مبالاة، دافعةً إياها جانبًا كأنها لا تراها.
قالت ببرود واستعلاء:
– “مرحبًا! تنحّي جانبًا، من فضلك!”
حدّقت مرام بها بدهشة وغيظ، ثم تمتمت باحتقان:
– “ليان حمدان!”
نطقت الاسم كما يُنطَق الشتْم.
لكن ليان لم تتوقف، بل ابتسمت ابتسامة خفيفة، وردّت بسخرية لاذعة:
– “أوه! لم أركِ إطلاقًا… معذرة.”
لم يكن ذلك اعتذارًا، بل طعنة في الكرامة مغلّفة بابتسامة.
كانت مرام على وشك الرد، بل كانت على وشك أن تجرّها من شعرها إن لزم الأمر، لكنّ أحد الحاضرين أمسك بذراعها بلطف، وسحبها إلى الخلف.
وبعد فترة في ركنٍ منعزل، كانت ليان منشغلة بإرسال سيلٍ من المكالمات إلى نوران.
كانت تتوق لسماع القيل والقال، لتغوص في مستنقع النميمة المعتادة، لكن نوران لم تكن تردّ.
لا على الاتصال الأول… ولا الثاني… ولا الثالث.
بدأ القلق يتسلّل إلى صدرها، وتذكّرت فجأة مطاردة أحمد لنوران وكريم في وقتٍ سابق من اليوم.
إحساس ثقيل وغير مريح اجتاحها، فعادت تتصل… ولا مجيب.
أغلقت الهاتف بعنف، وتمتمت بغيظ:
– “أحمد القيسي… أيها الوغد، ما الذي تفعله الآن بحقّ الجحيم؟”
فجأة، جاءها صوت رجولي من الخلف، بارد كحدّ السكين، أشبه بنصلٍ لامس عنقها:
– “هل كنتِ تبحثين عني؟”
ارتجفت، واستدارت بسرعة، لتجده واقفًا تحت الشجرة، يُدخّن سيجارة، والضوء الخافت للولاعة ينعكس بين أصابعه، مكوّنًا ظلالًا قاتمة على وجهه.
كان يقف هناك كأنّه شبح، لا شيء يعلو على صمته سوى دخانٍ يتصاعد ببطء… وإحساسٍ كثيف بالتهديد.