الفصل 69
كان أحمد دائمًا يرى في نوران تجسيدًا نابضًا للحياة، رمزًا للصلابة والإشراق، حتى في أحلك الظروف. لذا، لم يستوعب حينها ما قاله هشام عن حالتها الصحية، ولم يُصدّق بسهولة أنها باتت على شفير الموت.
اقترب هشام منه ببطء، يحمل في يده هاتفًا يُظهر نتائج تحاليل الدم. أشار إلى الشاشة بصوت خافت يحمل شيئًا من التحفظ والقلق:
“انظر، أحمد… الخلايا الليمفاوية منخفضة بشكل مقلق، وخلايا الدم البيضاء بالكاد تُحصى.”
ظلّ أحمد يتأمل الأرقام دون أن يربطها بالواقع. رفض عقله أن يقرّ بما تعنيه فعليًا، إلى أن باغتته ذكرى صراخها المرتجف، حين تركها وحدها في الحمام.
تذكر صوتها وهي تناديه، صوت امرأة كانت تمسك بأنفاسها الأخيرة دون أن يدرك.
تمتم كمن يحاول تبرير خطأه لنفسه:
“إنها مصابة بالحمّى الآن… فقط الحمّى.”
لكن هشام لم يمنحه عزاء التهوين، قال بصرامة:
“هذا سيء. علينا نقلها إلى المستشفى فورًا.”
بينما اتجه هشام لإحضار السيارة، شرد أحمد لحظة.
أخيرًا أدرك تفاصيل صغيرة أغفلها طويلًا…
كانت نوران ترتدي دائمًا سترات سميكة، حتى في الأيام المعتدلة.
وقد ظنّ حينها أن ذلك مجرد مبالغة أو رغبة في الظهور بمظهر أنيق.
لكنها، على ما يبدو، لم تكن تتظاهر. كانت تحاول أن تحتمي من برد العالم، ومن هشاشة جسدها، دون أن تشتكي أو تطلب عطفًا.
كان هو من لفّ جسدها النحيل بتلك الطبقات من الملابس على عجل، وكأنه يُقاتل ضد رياح لا يراها.
وفي وجهها الشاحب، وخدّيها المتورّدين من الحرارة، رأى مزيجًا من الشفقة والبراءة المؤلمة.
ليست هذه أول مرة تُصاب فيها بالحمى، فكم من مرة مرضت وخرجت قوية؟
لكن لماذا هذه المرة تحديدًا تُهدد حياتها؟
رفعها بين ذراعيه، فصدمه كم أصبحت خفيفة… كأن المرض نحت جسدها بصمت.
في ظلمة الليل، قاد السيارة بسرعة جنونية نحو مستشفى خاص، يحتضنها وكأن ذراعيه هما خط الدفاع الأخير ضد النهاية.
ولم تمضِ لحظات حتى وصل زياد، الطبيب المشرف، حاملاً بين يديه نتائج جديدة.
قال بلهجة حاسمة:
“سيد القيسي، لدينا الآن صورة أوضح. الحالة حرجة. السيدة نوران بحاجة فورية إلى حقنة نيولاستا لتحفيز نخاع العظم، وإلا…”
لم يدعه يُكمل.
كان أحمد ملازمًا لنوران، لم يفارقها لحظة منذ دخولهما غرفة الطوارئ.
كانت تهذي، تتمتم بكلمات متقطعة، تائهة بين الوعي والحمّى.
وضعت يدها المرتجفة على بطنها، ثم مدت الأخرى في الهواء، كأنها تستنجد بالفراغ:
“أحمد… أنقذني… أنقذ طفلنا…”
انكمش قلبه.
كانت الإبرة في ظهر يدها اليمنى، وكان عليه أن يمنعها من الحركة كي لا تُسحب منها الحياة بما فيها من أمل.
أمسكت بيده فجأة، بقوة لا تليق بجسدٍ في هذا الضعف.
وحين نظرت إليه، ارتخت ملامحها المشوهة من الحمى، وابتسمت… ابتسامة خفيفة، دافئة، كأنها سلّمت نفسها لطمأنينة غريبة.
همست بصوت بالكاد يُسمع:
“أمي… وجدتِني أخيرًا… لا تبكي عليّ، أنا بخير…”
اختنق أحمد بالدموع، وراح يهز رأسه نافيًا.
لا… لن تفقد نوران عقلها. لن تموت. ليست هي.
ثم استدار نحو هشام، وقال بصوت حاسم:
“أحضر رُكان إلى هنا، فورًا. فقط أخبرهم أنني اشتقت إليه.”
رد هشام سريعًا:
“سأفعل، فورًا.”
لم يكن لأحمد في الحياة إيمانٌ إلا بالسيطرة، بالجهد، لا بالحظ أو القدر.
كان يعتقد أن كل شيء يمكن إصلاحه بالإرادة والخطة البديلة.
لكن كلمات نوران الهائمة كانت مرعبة.
تُذكّره بأنها كانت ذات يوم ضحية حقده، لأنها تحمل اسم العائلة التي دمّرت أخته.
وقد ظنّ، في غمرة ألمه، أنه يكرهها. لكنه لم يتخيل، ولو للحظة، أن يخسرها بهذه الطريقة.
ما إن تحسنت حالتها قليلًا، حتى أمر بسلسلة من الفحوصات الدقيقة.
أراد أن يعرف كل شيء، أن يفهم ما يحدث داخل جسدها.
تمتم وهو يُمسك يدها الباردة:
“ستكونين بخير يا نوران… لن أسمح للموت أن يأخذكِ مني.”
لكن الحقيقة كانت دائمًا أكثر قسوة من النوايا.
فرغم تدخل زياد ومحاولاته الدؤوبة، ظلّت الحمى مستعصية، تقاوم العلاج.
كل ساعة تمرّ كانت تقرّبها أكثر نحو المجهول.
بغضبٍ لم يعهده في نفسه من قبل، أمسك أحمد ياقة زياد، وقال بصوت مبحوح:
“إذا حدث لها شيء… سأُوقف تمويلي لفريق أبحاثك فورًا.”
كان زياد يشعر بالإحباط، لكنه لم يُرد الرد بعصبية.
قال بهدوء متماسك:
“سيدي، نحن نبذل كل ما في وسعنا. لكن حالتها تزداد تعقيدًا. يبدو… أنها لم تعد تُريد البقاء.”
قال أحمد بعصبية نافذة:
“كلام فارغ! نوران ليست ضعيفة. هي أقوى من هذا… لديها جاد، لن تتخلى عنه!”
أومأ زياد برأسه، وقال بشرحٍ طبي عميق:
“سيد القيسي، نحن لا نتهرّب من المسؤولية، لكنّ الجسد مرآة الروح. الدماغ هو مركز التحكم، والإرادة تلعب دورًا جوهريًا في العلاج.
لقد رأيت ذلك يحدث… مَن يصرّ على الحياة، ينجو، حتى من الموت. لكن من يُغلق قلبه على الأمل… لا تنفعه العقاقير.”
ثم أضاف بصوت خافت، كأنه يهمس بحقيقة لا يريد لأحد سماعها:
“السيدة القيسي… فقدت رغبتها في الحياة.
وأخشى، بكل صراحة، أنها لم تعد تقاتل.”