الفصل السادس
هبت ريح باردة قارسة لتصفع وجهها، فتجمدت نوران حتى النخاع. رغم الألم الذي مزّق جسدها، دفعت نفسها بصعوبة إلى الأعلى وواصلت مطاردة السيارة بعناد يائس.
لكنها قد بالغت في تقدير قدرتها الجسدية؛ لم تركض سوى بضع خطوات قبل أن تنهار على الأرض، منهكة.
فُتح باب السيارة ببطء. ظهر حذاء جلدي لامع أمامها، مصقول بعناية. رفعت بصرها بتثاقل، متنقلة بين ثنايا البنطال الأنيق، حتى اصطدمت عيناها بنظرة أحمد. كانت باردة، غامضة، وموحشة.
“أحمد…” تمتمت نوران بصوت بالكاد يُسمع.
امتدت نحوها يدان نحيلتان. وفي لحظة من الهذيان، خُيِّل إليها أنها ترى الشاب الذي أحبته لسنوات، فمدت يديها نحوه دون تفكير.
لكن عندما تلامست أيديهما، تراجع فجأة. في تلك اللحظة، انطفأ نور قلبها، كأنما سحق الأمل تحت قدميه وألقاها في قاع الخيبة.
سقطت من جديد، وهذه المرة لم يكن السقوط مجرد سقوط عادي. إذ شقّت قطع الزجاج المنتشرة جلد راحتيها، فسال الدم على ذراعيها في صمت موجع.
تغيرت ملامح أحمد لوهلة، كأن ظلًا خفيفًا مرّ على وجهه، لكنه بقي واقفًا، متجمّدًا، بلا أدنى انفعال.
شعرت نوران بالذهول. لطالما كان يسارع بها إلى المستشفى عند أقل خدش في إصبعها. لا تزال تذكر الطبيب وهو يضحك ويقول: “الحمد لله أنه أتى بكِ فورًا. وإلا لكان الجرح قد شُفي وحده!”
الرجل الذي يقف أمامها الآن يحمل ملامحه، لكنّه ليس هو. نفس الوجه، نفس العينين، لكن… لم يعد هو ذاته. ذاك الاهتمام الحاني تحوّل إلى برود قاتل.
قال أحمد بنبرة صلبة: “نوران، أتظنين أنني لا أعرفكِ؟ تستطيعين الركض لمسافة ميل بسهولة، والآن تتظاهرين بالضعف بعد خطوتين فقط؟”
نظر إليها نظرة استخفاف، كانت كالسكاكين تنهش كرامتها.
عضت نوران شفتيها محاولة أن تشرح: “أنا لا أكذب… فقط، أشعر بالضعف لأنني مريضة—”
لم يمنحها الفرصة. انحنى نحوها، ورفع وجهها بيده، لامست أصابعه الخشنة شفتيها المتشققة.
قال بصوتٍ لاذع: “أنتِ حقًا ابنة أبيكِ… مدّعيتان حتى النخاع، وتفعلان أي شيء من أجل المال.”
تلك الكلمات كانت أقسى من الريح الباردة، كأنها طعنات متتالية في قلبها. دفعت يده بعنف.
صرخت بحنق: “والدي رجل شريف! لم يؤذِ أحدًا يومًا!”
ضحك أحمد بسخرية، ثم أخرج شيكًا من محفظته. كتب عليه مبلغًا ضخمًا، وأمسكه بين إصبعين بتعالٍ، ووضعه أمامها.
“هل تريدين هذا؟” سأل.
كان المبلغ—خمسة ملايين دولار—كافيًا لتغطية علاج والدها بالكامل، وإنهاء كل معاناتها. ومع ذلك، لم تُمد يدها نحوه، لأن أحمد لم يعد…
لطيفًا معها.
أضاف وهو يهمس في أذنها: “لكن بشرط واحد… قولي: جاد الهاشمي حقير.”
تبدلت ملامح نوران على الفور، ورفعت يدها لتصفعه، لكنّه أمسك معصمها قبل أن تصل إلى وجهه.
خلال صراعها معه، تركت بصمة دامية على قميصه الأبيض.
شدّ قبضته على يدها، وقال بنبرة أقسى من قبل: “لا تريدين؟ حسنًا، سيموت في المستشفى. وقد اخترت له مكان دفنه مسبقًا.”
انهمرت الدموع على وجه نوران، وهمست بانكسار: “لماذا أصبحتَ هكذا؟”
رحل الرجل الذي أقسم ذات يوم أن يكون حصنها، من وعد بحمايتها ورعايتها مدى الحياة. لم يبقَ منه سوى ظلٍ قاسٍ، يستمتع بمرارة في رؤيتها تنهار بالبكاء.
تسلّط ضوء عمود الإنارة الخافت على وجهه، كاشفًا عن ضجره ونفاد صبره.
قال ببرود وهو يحرر قبضته عنها:
“إذًا، لن تقوليها؟”
مزّق الشيك ببطء، كأنما يقطع صلتها بالأمل.
اندفعت نوران تحاول منعه، لكنّه دفعها بلا اكتراث وقال بنبرة خالية من أي عاطفة:
“أعطيتكِ فرصتك.”
تبعثرت قطع الورق من يديه، تمامًا كما تناثر أملها في الهواء.
صرخت: “لا! لا تفعل!”
وأسرعت، تتعثر وهي تجمع القطع بارتباك. كانت دموعها تنهمر كطفلة فقدت عالمها، متشبثة بما تبقى من شيء كان ثمينًا.
استدار أحمد ليرحل. وما إن همّ بركوب سيارته، حتى سمع صوتًا مكتومًا خلفه. التفت ليجد جسد نوران ملقىً على الأرض، فاقدة الوعي.
سارع كامل، السائق، نحوه، والقلق مرتسم على وجهه:
“سيد القيسي… السيدة القيسي أغمي عليها. هل ننقلها إلى المستشفى؟”
تجمدت نظرات أحمد، ثم قال بنبرة لاذعة:
“أأنت قلقٌ عليها؟”
ارتبك كامل، رغم أنه كان يعمل مع أحمد منذ سنوات. كان واضحًا أن السيد القيسي أحبّ نوران يومًا، لكن كل شيء تغيّر منذ رحلته لتحديد هوية جثة أخته.
ورغم الفضول الذي كان ينهشه، لم يجرؤ كامل على السؤال. اكتفى بالامتثال للأوامر، وقاد السيارة بعيدًا.
ظل أحمد يراقب نوران من مرآة الرؤية الخلفية… لم تتحرك. تعمّقت نظرات الازدراء في وجهه، ثم صرف نظره أخيرًا.
لقد تحسّن تمثيلها كثيرًا، كما يرى.
رغم الحياة المنعزلة التي عاشتها، لم تكن نوران ضعيفة. فقد شجعها جاد، منذ طفولتها، على المشاركة في برامج لياقة لحمايتها من التنمر. حازت الحزام الأسود في التايكوندو، وأصبحت خبيرة في الدفاع عن النفس.
لم يكن من المنطقي أن يُغمى على فتاة بهذه البنية القوية مرارًا.
بالنسبة له، كل ما تفعله مجرد تمثيل للحصول على المال. ومع هذه الفكرة، أغلق مرآة الرؤية، رافضًا أن ينظر إليها مجددًا.
بمجرد أن غابت سيارة أحمد عن الأنظار، ظهر كريم إلى جانب نوران.
عندما فتحت نوران عينيها، وجدت نفسها في نفس الغرفة التي غادرتها قبل وقت قصير. إبرة في يدها، والسائل الوريدي ينساب بهدوء، بينما يدها اليسرى مضمدة بعناية.
نظرت إلى الساعة: الثالثة صباحًا.
قبل أن تنطق، سمعت صوتًا وديعًا:
“آسف… تبعتكِ لأنني ظننتُ أنكِ ستفعلين شيئًا طائشًا.”
اقترب كريم، ساعدها على الجلوس، وضع وسادة خلف ظهرها، وناولها كوب ماء.
قالت بصوت مبحوح:
“هل رأيت كل شيء؟”
أجاب بصدق:
“آسف… لم يكن قصدي التطفل.”
كان كريم صادقًا وهادئًا، النقيض الكامل لأحمد.
أجابت بمرارة:
“لا بأس… أنا زوجته، في النهاية. لا شيء لديّ لأخفيه.”
تجمد وجه كريم للحظة. لاحظت نوران، فابتسمت بسخرية خفيفة.
“صحيح… الجميع يظن أن مرام خطيبته الآن. لا يهم إن كنت لا تصدقني—”
قاطعها كريم:
“بل أصدقك. أعرف تصميم خاتمك. كان إصدارًا خاصًا من SL… الخاتم الوحيد من نوعه. المجلات قالت إن مدير SL صمّمه خصيصًا لزوجته. وأنا أعلم أن أحمد القيسي هو مؤسس SL.”
حينها، راود كريم شك قديم حول علاقتها بأحمد، لكنه كان قد رفض تصديقه حين سمع شائعاتهم سابقًا. وكان أحمد نادر الحضور بعدها في المستشفى.
رفعت نوران يدها لا شعوريًا إلى إصبعها العاري. الجلد حوله أفتح، كأنه يصرّ على تذكيرها بزواجها المثير للشفقة.
“لا يهم إن كنت زوجته. سنُطلّق غدًا في التاسعة صباحًا.”
سألها كريم بصوت خافت:
“هل يعرف بحالتك؟”
ردّت بعينين دامعتين:
“ليس من حقه أن يعرف.”