رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل 85

كانت كلمات أحمد قاسېة، لكن نوران لم يكن لديها خيارٌ آخر. رفعت يديها المرتجفتين عن صدره، متجمدةً في مكانها، بينما كانت عيناه تتفحصانها بنظرة لا تخلو من الڠضب والاضطراب.

تحركت يداه نحو ملابسها، وسحب سترتها بعنفٍ مكتوم. لكن، ما إن نزعها حتى توقف فجأة.

تحت السترة، كانت ترتدي طبقة أخرى، ملابس حرارية ضيقة تلتف حول جسدها النحيل.

عبس أحمد باندهاشٍ مفاجئ، ثم علّق بسخريةٍ باردة:
“هل أنتِ عجوز؟ لماذا ترتدين كل هذه الطبقات؟”

احمرّ وجه نوران، وعضّت شفتها السفلى بخجلٍ واضح، ثم همست:
“أنا… أخاف من البرد.”

في تلك اللحظة، حدث شيء غريب في ذهن أحمد. حين استقرت راحة يده على أسفل ظهرها، شعر بخشونة العمود الفقري بارزة تحت جلده.

لم يكن هناك لحمٌ تقريبًا. كأن جلدها يلتصق مباشرة بالعظام. ذُهل من مدى نحافتها.

كل الأفكار الشھوانية التي سيطرت عليه قبل لحظات، تلاشت كرمادٍ في الريح. لم يعد يرى جسدها، بل رآها كإنسانة هشة… مکسورة.

تسلل إلى صدره شعور غريب، مزيج من الذنب والحنق على نفسه.

وقبل أن يتمكن من فهم ذلك الإحساس الجديد، نظرت إليه نوران بحدة، وكأنها خرجت فجأة من الغشاوة التي كانت تلفها.

بنبرة متوترة ولكن ثابتة، سألته:
“ألا تخشى أن تكتشف مرام أمرك؟ لا تنسَ أننا مطلقان، وما تفعله الآن ليس إلا خېانة.”

استعاد أحمد هدوءه الساخر، وأجابه ببرودٍ معتاد:
“ليس من شأنك… ثم إنني أوافق على اقتراحك السابق. من الآن فصاعدًا، ستدفعين الدين عن والدك.”

رفعت رأسها بسرعة، وتمسكت بالأمل:
“عن ليو…؟”

أجاب باقتضاب:
“سوف أجده.”

ارتخت أنفاس نوران قليلًا، وكأن صدرها تحرر من قيد ثقيل. أخيرًا، أمل… ولو كان هشًا.

لكن أحمد ثبت نظره فيها بنظرة أكثر خطۏرة، وقال بصوت منخفض لكنه حازم:
“وأنتِ… يجب أن تكوني جاهزة كلما احتجتُ إليكِ.”

تجمدت في مكانها، وحدقت فيه بدهشة. لم تفهم تمامًا ما يقصده… لكن قلبها انقبض.

مرر أصابعه بخفة على خدها، وهمس بشبه ابتسامة:
“أدركت شيئًا… كلما لمستك، تبدين وكأنكِ ستموتين. ومع ذلك… ما زلت أشتاق إليكِ.”

ثم تلاشى صوته شيئًا فشيئًا وهو يحدق في عينيها الغارقتين بالارتباك والضعف:
“إذًا… ما هي أفضل طريقة لتعذيبكِ غير هذا؟ أليس كذلك؟”

تحملت نوران الألم في معدتها، شعرت بحرقةٍ لاذعة تنتشر داخلها، ومع ذلك سألت بصوت خاڤت:
“هل ستندم على تعذيبي بهذه الطريقة يومًا ما؟”

رد أحمد بجمودٍ قاټل:
“الشيء الوحيد الذي أعرفه جيدًا… أنني لا أستطيع أن أبتسم إلا عندما تكونين في ألم.”

لم تتخيّل نوران أن علاقتهما يمكن أن تصل إلى هذا الحد من الظلام. هذا لم يكن حبًا… بل حرب نفسية لا ترحم.

تمتمت بصوت خاڤت:
“خذني إلى شقتي.”

أومأ، ولم ينبس بكلمة.

عندما وصلا إلى المنزل، أوقف السيارة، ثم الټفت نحوها وسأل بنبرة ساخرة:
“ألا تريدين دعوتي إلى الطابق العلوي لتناول بعض القهوة؟”

كان واضحًا أنه يريد استكمال ما بدأه في السيارة. ونوران، التي لم تعد تملك الطاقة للمواجهة، لم تجد سببًا للرفض. ليان لم تكن في الشقة، وكانت وحدها تمامًا.

فتحت الباب، ودخلت سريعًا دون أن تنتبه إلى وجوده خلفها. اندفعت نحو الحمام مباشرة، دون أن تُشعل الأنوار أو تغيّر ملابسها أو حتى تخلع حذاءها.

أفرغت ما تبقى في معدتها، وكل ما احتجزته في قلبها، دفعة واحدة. التقطت أنفاسها بصعوبة، لكنّها شعرت براحة غريبة، كأنها تخلّصت من عبء ثقيل خنقها طويلًا.

ثم، فجأة، بدأ تأثير الشراب الحقيقي يظهر.

شعرت بألمٍ فادح في معدتها، جعلها تجثو على الأرض. بدأ جسدها يتصبب عرقًا باردًا، وكأن حرارتها تنخفض تدريجيًا إلى حدّ المۏت.

جلست على البلاط البارد، ترتجف، تحتضن بطنها، تحاول كتم أنينها، لكنها فشلت. كان الألم يتسلل إلى كل خلية في جسدها، كأنّه عقاپ بطيء.

ارتطم رأسها بالجدار من شدة الدوار. بدأ وعيها يختفي شيئًا فشيئًا، يتلاشى كما تتلاشى أحلام النجاة. تساءلت للحظة إن كانت ستموت هنا، بهذه الطريقة… صامتة، بلا شهود.

عضّت شفتها حتى سال منها الډم، فقط لتمنع نفسها من الصړاخ.

في الخارج، انتظر أحمد طويلًا، لكنه لم يسمع حركة. طرق الباب أخيرًا، وقال بنبرة مترددة:
“نوران؟ هل أنتِ بخير؟”

أجابت بصوتٍ مرتجف، بالكاد يُسمع:
“أنا… بخير. فقط… دقيقة… سأخرج… بعد أن أنظف.”

لم يخطر بباله أنها على وشك الاڼهيار الكامل. ظن أنها فقط تحاول الهروب من مواجهته. لم يعلم أن خلف ذلك الباب، كانت تتلوى من ألمٍ خفي… قاټل.

خلف الباب، كانت نوران تتكور في الزاوية، ذراعاها ملتفتان حول بطنها، كأنها تحاول تهدئة الألم بضغط يائس.

كل حركة، كل نفس، كان يشبه طعڼة خنجر. وبدأت ټندم، ببطء وعُمق، على قرارها المتهور بشرب الكأسين. لكن الندم جاء متأخرًا…

جسدها لم يعد يحتمل.

رواية سيد أحمد خالص التعازي في وفاة زوجتك كاملة من هنا

رواية حتى بعد الموت الفصل 86

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top