الفصل 88
صُدمت نوران بشدة، فتوقفت عن الحركة فجأة، كمن باغتته صاعقة في وضح النهار، ثم قالت بجديّة صارمة ونبرة متماسكة تُخفي خلفها عاصفة من الڠضب:
“سيدتي، لقد تجاوزتِ حدودكِ. أريد الحديث مع والدي على انفراد. أرجوكِ… اخرجي الآن.”
رمقتْها الممرضة بنظرة خاطفة، ثم هزّت رأسها باحترام، وأغلقت الباب خلفها برفق، تاركة خلفها سكونًا ثقيلًا كحضور المۏت.
جلست نوران قرب سرير والدها، كما اعتادت، تمسح جسده برفق يشبه نَفَس الندى على بتلات ورد، تقلم أظافره بعناية، وتعدّل خصلات شعره المبعثرة. بدا وكأنه نائم بسلام، لا تحرّك فيه سوى ذبذبات جهاز القلب التي تُثبت أنه ما زال، بطريقة ما، على قيد الحياة.
كان الطقس اليوم مختلفًا. لا ثلج، لا عواصف، لا ريح عاتية… بل شمس خفيفة تتسلل من بين السُحب، تلامس زجاج النافذة بخجل. دفعت نوران الستائر جانبًا، كأنها تدعو الضوء ليكون شاهدًا على حديثها الأخير.
انحنت فوقه وهمست بنبرة تكسوها الحنان والمرارة:
“أبي، لن أتمكن من البقاء طويلًا… إن لم تستيقظ قريبًا، قد لا أراك مجددًا.”
ترددت لحظة، وكأنها تبحث عن القوة لتكمل:
“أنا وأحمد… انتهى كل شيء بيننا. طلقني.”
كانت تتحدث إليه وكأنه يسمعها، كأن جسده الغائب عن الوعي ما زال يحتفظ بقلبه، بقربه، بها.
“لم يكن جيدًا معي في السنتين الماضيتين، بل كان قاسيًا، باهتًا، كأن روحه كانت في مكان آخر… لكن بعد الطلاق، تغيّر فجأة. أصبح كريمًا. أعطاني منزلًا، سيارة، وبعض الأسهم. لا أصدق أنني أصبحت ثرية… من رجل لم يعد لي.”
ثم ابتسمت ابتسامة حزينة، كأنها تضحك على مفارقات القدر، وتابعت:
“أتذكر ما قلته لي بعد ۏفاة أمي؟ أن الحياة لا تصقلنا إلا بالخسارة، وأن الندم هو المعلم الأكبر. حاولت أن أتمسك بكل شيء بعدها، بكل لحظة، بكل شخص… لكن رغم ذلك، لم أستطع أن أُبقي أحدًا.”
نظرت إلى ملامحه الغائبة وقالت:
“لكن لدي خبر جيد يا أبي. كروسبي قرر عرض منزلنا في المزاد، وسأشتريه، وسأعيده كما كان. عندما تشفى… ستعود لتسكنه.”
تنهدت، ومسحت دمعة سقطت رغماً عنها:
“أعتذر لأنني مضطرة لتركك اليوم. كنت أتمنى أن أراك تستيقظ، لكن يبدو أن المعجزات لا تحدث إلا في القصص.”
خرجت من الغرفة، وعلى شاشة هاتفها لمع عنوان الخبر الجديد:
“رئيس مجموعة القيسي يُهدي خطيبته فستان زفاف لا يُقدّر بثمن.”
وأسفله صورة الفستان: ميليا ستيلاي.
تجمدت عين نوران، وكأن أحدهم طعنها پسكين في صدرها.
لم تمانع زواجه، لم تحقد عليه، لكنها لم تحتمل أن يمنحها فستان الأحلام… لامرأة غيرها.
كان هناك آلاف الفساتين… فلماذا هذا الفستان تحديدًا؟
عادت بذاكرتها إلى ذلك اليوم البعيد. كانت مسترخية على الأريكة، شعرها مبتل بعد الاستحمام، تشاهد مؤتمرًا لعلامة أزياء فاخرة. أشارت إلى فستان وقالت باندهاش:
“يا إلهي! تصميمات إيمي مدهشة. فخمة دون مبالغة. أتمنى لو أرتدي شيئًا كهذا…”
اقترب منها أحمد، عانقها وقال:
“من قال إنك بحاجة لحفل زفاف؟ سأصمم لكِ أجمل فستان، خصيصًا لكِ.”
وبعد أسابيع، عثرت على مسودات في مكتبه. تصاميم متناثرة، تحمل ملامح العناية والحب.
فاجأها من الخلف، عانقها وقال وهو يضع ذقنه على كتفها:
“هل يعجبك؟ صممته من أجلك.”
أجابت:
“أحب كل ما تصممه.”
قال بهدوء:
“سيستغرق تنفيذه ثلاث سنوات… من الخامة الأولى حتى آخر حجر ماس. هل يمكنك الانتظار؟”
ردت بابتسامة صافية:
“سأنتظره حتى لو استغرق ثلاثين عامًا. سنسميه ميليا ستيلاي.”
قال لها:
“وسيكون لكِ وحدك.”
قالت بصدق:
“وسأرتديه من أجلك فقط.”
لكن اليوم، لم تعد تنتظر الفستان. لم تعد تنتظر شيئًا. كل ما جلبه لها ذلك الانتظار… هو مشهد الفستان بين يدي امرأة أخرى.
خطيبته.
تنفست بعمق، أعادت ترتيب تعابير وجهها قبل أن تدخل منزلها. كانت ليان قد عادت إليه لتوها، وقد بدت في المطبخ كأنها فراشة تطير بين الملاعق والتوابل.
كانت تدندن وهي تُعد العشاء، وقد ملأت رائحة المرق العطري أرجاء المكان. شعرت نوران أن تلك الرائحة أعادتها إلى الحياة، كأنها تنتشلها من قاع الحزن وتضعها على عتبة الأمل.
دخلت المطبخ وقالت:
“أحب كل ما تطبخينه، ليان.”
نظرت ليان إليها وقالت:
“لقد عدتِ! كيف حال والدك؟”
“كما هو… لا جديد.”
قالت ليان بتفاؤل:
“سيتعافى، لا تقلقي. بالمناسبة، لقد تبرعتِ بمبلغ كبير اليوم. كرمك لا حدود له.”
أجابت نوران:
“المال لا قيمة له إن لم يُستخدم. نحن لا نأخذ شيئًا معنا حين ڼموت. على الأقل، فلينفع غيرنا.”
ضحكت ليان وقالت بسخرية:
“المال جاء من وغد، فليذهب إلى ما هو أنبل من ماضيه. وإلا، ستأخذه تلك السامة الخبيثة.”
ثم أضافت:
“لن أنسى أبدًا كيف ركلني من فوق التل. أراه في أحلامي كل ليلة… وأركله بدوري.”
ضحكت نوران وقالت:
“أوه، ليان، لن تتغيري.”
فجأة، رفعت ليان كاميرا وقالت:
“تجمّدي! هذه الابتسامة لا تُعوّض.”
غطّت نوران وجهها وقالت بخجل:
“تعلمين أنني لا أحب الصور.”
قالت ليان وهي تلتقط صورة:
“يجب أن أحتفظ بكِ كما أنتِ الآن. في حال قررتِ الرحيل يومًا… أريد أن أراكِ كما أراكِ الآن.”
أخذت نوران الكاميرا منها، وابتسمت بهدوء:
“إذن ضعي فلترًا جميلًا. نحن النساء نعشق الجمال… وسأبتسم لكِ أكثر، كي تتذكري هذه اللحظة دومًا.”
رواية غاية في الروعة والجمال اسلوب وأحداث مشوقة للغاية أحب أن اقراء باقي الرواية الفصل 88