رواية حتى بعد الموت الفصل 7

رواية سيد احمد خالص التعازي في وفاة زوجتك

الفصل السابع

بدت نوران هادئة على نحوٍ غير مألوف عندما قالت ذلك، وكأنها تخلّت عن أحمد تمامًا دون رجعة. لكن كريم لم يُخدَع بهذه السكينة الظاهرية؛ كان يعلم أن التخلّي عن شخص أحببته يومًا لا يكون بهذه السهولة. كانت أقرب إلى حيوان جريح يُخفي آلامه عن الأنظار، ليضمد جروحه في صمت، بعيدًا عن أعين المتطفلين.

رغم ذلك، لم يُطِل كريم الحديث. أراد أن يبدّل مجرى الحوار فقال بهدوء:
“أعلم أنك لم تسدّدي تكاليف جراحة والدك. وبما أننا أصدقاء، دعيني أقرضك المال الآن. يمكنكِ سداده متى استطعتِ.”

كان تأمين هذا المبلغ الكبير أمرًا بالغ الصعوبة بالنسبة لنوران. لطالما عرض عليها كريم المساعدة، مرارًا وتكرارًا، لكنها كانت ترفض في كل مرة بإصرارٍ لا يتزحزح.

ولم يكن هذا اليوم مختلفًا؛ إذ هزّت رأسها رافضة وقالت بنبرة ثابتة:
“لا، شكرًا.”

كتم كريم أنفاسه للحظة، ثم قال بقلقٍ صادق:
“نوران… حالة والدكِ خطيرة. أحقًا تفضلين أن يذلكِ هذا الوغد على أن تقبلي مساعدتي؟ أنا لا أطلب شيئًا في المقابل، فقط أريد أن أكون إلى جانبكِ. صحيح أن عائلتي ليست بثروة عائلة القيسي، لكن هذا المبلغ لا يُثقل كاهلي، فلا تقلقي حياله.”

كانت نوران تقبض على كوب الماء بكلتا يديها، وعيناها شاحبتان إلى حدٍ أوجعه. شعر بغصةٍ في صدره وهو يراها على هذه الحال.

قالت بصوت خفيض، وكأنها تُحدّث نفسها أكثر مما تُخاطبه:
“كريم… أنت إنسان نبيل، لكن… لم يعد لي مستقبل. سواء كان مالًا أو مروءة، لم أعد أملك ما يردّ لك جميلك.”

ثم لمحت بعينها أن كيس المحلول الوريدي قد أوشك على النفاد، فمدّت يدها وسحبت الإبرة بعنف من ظهر يدها. اندفع الدم من الجرح بلا رادع، لعدم وجود شاشٍ يوقف النزيف، لكنها لم تُبدِ أي اهتمام، كأن الألم لم يعد يعني لها شيئًا.

التقطت سترتها بهدوء وقالت، وهي تُحدّق في الفراغ:
“لا داعي للقلق بشأن المال. سيمنحني عشرة ملايين دولار حين أُطلّقه. بالمناسبة، والدي خضع للعملية أمس… سأذهب لزيارته في المستشفى.”

عنادها لم يفاجئه؛ كانت دائمًا كذلك. عنيدة كالبغل. تمامًا كما كانت عندما قررت فجأة ترك دراستها والزواج، رغم مكانتها كنجمة أكاديمية لامعة. لا يزال يتذكر كيف كان أساتذتها يتحسرون عليها وهم يتناولون الغداء معه، يذكرونها بكلمات مزيجة بين الإعجاب والأسى.

بدت نوران وكأنها تتوقع من كريم أن يعرض مرافقتها إلى المستشفى. لكنها، وقبل أن ينبس ببنت شفة، أشارت إلى هاتفها بصوتٍ حازم، تقطع عليه الطريق:

“سيارة الأجرة وصلت.” ثم ارتدت سترتها بسرعة.

وعندما وضعت يدها على مقبض الباب، جاءه صوت كريم هادئًا، لكنه مشحون بالتساؤل:
“نوران، هل ندمتِ يومًا على ترك كل شيء… من أجل الزواج منه؟”

هل ندمت فعلًا؟

كان أحمد سببًا في سلسلة من المآسي التي عصفت بحياتها. والدها نُقل إلى المستشفى إثر صدمةٍ قوية بعد حادثٍ مروّع، فيما فقدت نوران طفلها الأول، الطفل الذي علّقت عليه أحلامها.

منطقيًا، كان ينبغي أن تندم. لكنها، حين أغمضت عينيها، لم ترَ سوى حطام السفينة، وتذكّرت الرجل الذي قفز وسط العاصفة لينتشلها من الغرق. كان هو… الشاب ذاته الذي التقت به لأول مرة في المدرسة.

حاولت إخفاء دموعها وهمست لكريم:
“لا أريد أن أندم.”

راقبها كريم وهي تبتعد، يحمل في داخله مزيجًا من العجز والقلق، ثم أغلق الباب بصمت.

عندما وصلت نوران إلى المستشفى، كان والدها، جاد، لا يزال في العناية المركزة. لم يُسمح لها إلا بمشاهدته من خلف الزجاج. عيناها كانتا متورمتين من السهر، ولسانها ثقيل بالكلمات التي لم تستطع البوح بها.

في ذاكرتها، كان والدها رجلًا نبيلاً وبسيطًا. قبل طلاقه من نهى، لم ترتفع الأصوات في منزلهما يومًا. ظلّ وفيًا لذكراها، ولم يتزوج بعدها، بل كرّس حياته لابنته الوحيدة.

حتى أحمد، الذي كان يحمل في قلبه مرارة تجاه جاد، لم يكن يكرهه لذاته. بل كانت مشاعره معقّدة، حائرة بين الكراهية والغيرة.

كانت نوران تتذكّر ذات مرة، حين حدّثها أحمد عن أخته الصغرى، التي اختفت في ظروفٍ غامضة، وتركت أثرًا مدمرًا على والدته، التي أصبحت تقضي معظم وقتها خارج البلاد.

تساءلت نوران:
ما علاقة أخت أحمد المفقودة بوالدي إذن؟

بدافع القلق، قررت نوران أن تبدأ من أقرب الناس لوالدها: العاملين في منزله. أسرعت بالبحث عن سائقه، وكبير الخدم، لكن المفاجأة كانت أن الأول تعرّض لحادث سير، بينما الثاني سافر فجأة إلى الخارج، ولم تتمكن من التواصل مع أيٍّ منهما.

أدركت نوران أن الصدفة لم تعد تفسيرًا منطقيًا لما يجري.
شخصٌ ما ينسج خيوط هذه الفوضى.

لكنها لم تكن ساذجة. ومع عجزها عن الوصول إلى إجابات من جانب عائلتها، قررت أن تتجه إلى الطرف الآخر: أحمد.

وكان السبيل إلى ذلك عبر رجليه الأوفياء: كامل، سائقه، وهشام، مساعده الخاص.

نظرت إلى ساعتها. السابعة صباحًا فقط. من المفترض أن يكونا في طريقهما إلى منزل أحمد.

اتصلت مباشرةً بهشام. بعد لحظات، ردّ عليها بصوته المألوف المهذب:
“سيدة القيسي؟”

كتمت مرارتها وقالت بهدوء:
“سيد هشام، لدي موعد مع أحمد لتوقيع أوراق الطلاق. هل يمكنك أن تقلّني إلى مبنى البلدية؟”

سكت هشام للحظة، مترددًا. كان كرهه للتغييرات المفاجئة لا يقل عن أحمد.

فأضافت نوران بسرعة، مستشعرة تردده:
“أرجوك، لا تسيء الفهم. لا نوايا أخرى لي. أخشى فقط أن يحدث ما يعيق الطلاق. فواتير والدي الطبية لم تُسدد بعد…”

كانت تعرف كيف تخاطبهم؛ لم تكن يومًا فظّة أو متعالية. فحين طلبت بلطف، لم يستطع هشام الرفض.
“أين أنتِ الآن، سيدتي القيسي؟ سأصل خلال دقائق.”

أرسلت له موقعًا قريبًا منهم، على الطريق المؤدي إلى الخليج، حيث تقيم مرام.

تذكّرت أن وسائل الإعلام كانت قد التقطت صورًا لأحمد هناك مؤخرًا. ربما كان يقيم معها خلال فترة انفصالهما السابقة.

لكنها تراجعت فورًا عن التفكير بذلك.
بقاءه مع مرام… لم يعد يعنيها.

بعد أقل من عشرين دقيقة، توقفت السيارة أمامها. كالعادة، نزل هشام ليفتح الباب:
“أعتذر عن التأخير، سيدتي القيسي.”

هزّت رأسها بلطف وقالت:
“لا عليك.”

دخلت السيارة وجلست بهدوء. هشام ظل صامتًا، أما كامل، فحاول كسر الصمت على طريقته:
“هل نمتِ جيدًا، سيدتي؟ الجو باردٌ اليوم، ولا تزال الشمس نائمة.”

رمقه هشام بنظرة حادة، مما جعله يخرس فورًا.

ثم بدأت نوران حديثها ببطء، وكأنها تختبر ردة فعلهما:
“ظننتُ في البداية أن مرام هي السبب في تغيّر أحمد… لكن يبدو أن هناك ما هو أعمق من ذلك. أنتما تعملان معه منذ سنوات، أليس كذلك؟ لا بد أنكما تعرفان شيئًا عن أخته المفقودة.”

توقّفت السيارة فجأة بصوت صريرٍ حاد، جعل قلب نوران يقفز في صدرها. رفع كامل يديه عن المقود بحدة، مشيرًا بإحدى يديه بلا مبالاة، متجاهلًا سؤالها تمامًا:
“لا يمكنكِ قول أشياء كهذه، سيدتي القيسي.”

لم يلتفت إليها، لكن صوته حمل نبرة تحذير واضحة.

أما هشام، فالتفت إليها بوجهٍ هادئ، وإن بدا متوترًا تحت السطح، وقال بصوته الرصين المعتاد:
“سيدة القيسي، أنتِ تعلمين أننا لا نتدخل في الأمور الخاصة بالسيد القيسي. وحتى إن كنا نعلم، فليس من حقنا مشاركتكِ بأي شيء. أرجوكِ تفهّمي موقفنا.”

وضعت نوران يدها على وجهها، محاولة أن تخفي دموعها. لكن دمعة انزلقت من بين أصابعها، لتفضح هشاشتها أمامهما. همست بصوت مكسور:
“أعلم أنني أضعكما في موقفٍ صعب، لكن لا خيار أمامي. أحمد لا يخبرني بشيء، ووالدي لا يزال بين الحياة والموت.”

تنهّدت بمرارة، ثم أضافت:
“عائلتي تنهار أمامي، وأنا لا أفهم لماذا. حتى لو مُتُّ غدًا، أريد أن أعرف الحقيقة. لا أريد أن أعيش في ظلال الجهل بعد الآن.”

ساد صمت ثقيل داخل السيارة، لا يقطعه سوى صوت المحرّك الخافت. تبادل هشام وكامل نظرات سريعة، قبل أن يجيب هشام بصوت أكثر خفوتًا:
“سيدتي القيسي… ما حدث لأخت السيد القيسي موضوعٌ محظور. لا نعرف عنه الكثير، وإن عرفنا، فلا يُسمح لنا بالتحدّث فيه.”

ثم، وكأنه توقّع إصرارها، أخرج هشام ورقة صغيرة من جيبه، وبدأ يكتب عليها عنوانًا بخط دقيق. مرّرها إليها دون أن ينظر في عينيها.

“سيدة القيسي… بما أننا نكنّ لكِ الاحترام، فهذا أقصى ما أستطيع فعله. لا تسأليني أكثر من ذلك.”

أمسكت نوران الورقة بيد مرتجفة، تشعر وكأنها تمسك بخيطٍ رفيع من الأمل وسط هذا الظلام الكثيف.

الرواية كاملة من هنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top