الفصل الثامن
نظرت نوران إلى الورقة في يدها. كانت تحمل عنوان مقبرة.
هل كانت أخت أحمد ميتة بالفعل؟
لكن، ما علاقة والدها بذلك؟
إن كان هناك من يعرف طبيعة والدها، فهي نوران. تعرف أنه ليس من النوع الذي يؤذي الآخرين… فكيف بفتاة صغيرة؟
كانت تعلم أن هشام وكامل لن يفصحا عن المزيد، لذا قررت التوقف عن طرح الأسئلة. خيّم الصمت على الطريق حتى منزل آل القيسي، وكانت مشاعر نوران تموج في داخلها عند وصولهم.
سألها هشام بأدب:
“سيدة القيسي، هل ترغبين بالدخول؟”
“لا، شكرًا. سأنتظره هنا.”
كانت تلك آخر مرة ترى فيها أحمد، لقاءً خُصّص فقط لتوقيع أوراق الطلاق. لم تكن راغبة في إضافة مزيد من الأذى إلى نفسها، فكل زاوية في هذا المكان كانت تحمل ذكرى من ماضيهما، ولم تكن مستعدة لإحياء ما دفنته بالكاد.
هو من جعلها تتعلق به بذلك الشكل. ورغم أنه أصبح باردًا ومبتعدًا مع مرور الوقت، إلا أنها لم تنسَ كم كان في بداياته محبًا ودافئًا.
كان من المفترض أن تكرهه بشدة، لكنها لم تجد في قلبها ما يمنحها القدرة على ذلك.
في السيارة، ظل المحرك يعمل، والدفء يغمر المقصورة. كانت نوران وحدها.
عاود الألم معدتها، فانكمشت على نفسها بوضعية الجنين، منتظرةً أن تنجلي عتمة الليل. ثم احتضنت ركبتيها بشدة إلى صدرها.
كان الشتاء في ذروته. الأيام قصيرة والليالي موحشة. ورغم أن الساعة اقتربت من السابعة صباحًا، بقيت السماء معتمة. تساقطت أوراق شجرة التفاح في الحديقة، واستدعى ذلك في ذهنها مشهدًا من ماضٍ بعيد.
في موسم التفاح، كانت تتوق لعصيره، وحين لاحظ أحمد ذلك، ساعدها في قطف الثمار.
كان آنذاك أحمد الذي تعرفه: ودودًا، بسيطًا، يطهو باحتراف، ويعاملها كما لو كانت أميرة.
وبينما كانت تسترجع تلك الذكريات، وجدت نفسها تمشي ببطء نحو الشجرة. كانت لا تزال هناك… في مكانها القديم، لكن الزمن غيّر كل شيء.
حتى الشجرة نفسها تغيّرت؛ لم يتدلَّ من أغصانها سوى ورقتين جافتين. كانت كأنها انعكاس لعلاقتهما التي ذبلت.
وبينما كان أحمد يخرج من القصر، لمح المشهد: امرأة بقميص محبوك رقيق تقف تحت شجرة التفاح، شعرها مبعثر بفعل نسمة لطيفة.
كان الجو اليوم ألطف من الأيام السابقة. تسللت أولى خيوط الشمس إلى وجهها.
بشرتها الفاتحة التمعت تحت الضوء، كأنها مخلوق من خيال، قاب قوسين من أن يختفي. يداها كانت معقودتين، ووجهها باهت، لا تزال ترتدي ثياب الليلة الماضية.
قالت دون أن تنظر إليه:
“أحمد.”
“ممم؟” تمتم.
استدارت ببطء لمواجهته. كانا قريبين بالجسد، متباعدين بالروح.
“أريد أن أشرب عصير التفاح… الذي صنعته لي آخر مرة.”
صُدم أحمد، وتأخر قليلًا قبل أن يرد. قال ببرود:
“موسم التفاح انتهى. لا تضيعي وقتك.”
بدت عيناها منتفختين، وهمست بصوت خافت:
“هل يمكنك اعتباره طلبي الأخير… قبل الطلاق؟”
تغيّرت كثيرًا في ثلاثة أشهر فقط. التفت ينظر إلى الشجرة العارية، وقال بنبرة أكثر ليونة:
“الثمار المجمدة من العام الماضي لم تعد طازجة… فلنرَ كيف سيكون المحصول في العام القادم.”
العام القادم…
مررت نوران أصابعها على لحاء الشجرة الخشن. لم تكن تملك رفاهية الانتظار لعام آخر.
قالت بهدوء دون أن تنظر إليه:
— “لا بد أنك تكرهني كثيرًا، أليس كذلك؟”
— “نعم.”
— “إذن… هل ستكون سعيدًا إذا مت؟” التفتت إليه، ونظرتها خافتة، لكنها حادة.
ارتبك. خفق قلبه بشدة، وسكتت أفكاره للحظة، كأن الكلمات سلبت منه عقله.
ثم، وبنبرة ثابتة:
— “إنه مجرد عصير تفاح. تفضّلي بالدخول.”
راقبته نوران وهو يعود إلى الداخل، وارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيها.
“هل تخاف من موتي؟” تساءلت في سرّها.
وفجأة، خطرت لها فكرة… فكرة الانتقام. تخيّلت وجهه حين يتلقى خبر وفاتها.
هل سيفرح؟ هل سيغضب؟ أم سيكتفي بالصمت كعادته؟
في المطبخ، بدأ أحمد بإذابة الثمار المجمدة. راقبته نوران من بعيد. كان منهمكًا في إعداد الحساء، وكأنها ما تزال جزءًا من حياته.
ربما تكون هذه آخر مرة يطهو فيها لأجلها.
على الأقل، هذا شيء يستحق أن يُتذكّر.
جلست قرب المدفأة، وبدأت بشوي أعواد الخطمي. انتشرت رائحتها الحلوة في الأرجاء، فأعادت إليها ذكرى جدة أحمد، تلك السيدة الطيبة التي كانت تستقبلها في الشتاء بابتسامة دافئة وسُكّر محترق.
رحلت الجدة قبل عامين، وسافر الجد هربًا من الوحدة. بقي القصر بعدها بارداً، بلا روح.
ولم يكن هناك أحد بعد الآن ليسرق من نوران أعواد الخطمي… أو ليملأ فراغها الداخلي.
انتهت من تناولها، وشربت كوب ماء دافئ. خفّ ألم معدتها. ومن المطبخ، تسللت رائحة الطعام تدعوها بهدوء.
دخلت لتجده يسكب الحساء في وعاء، ويضع جزءًا منه في قارورة حرارية.
منذ متى أصبحت أولويته؟
تساءلت، رغم علمها أن الماضي وحده هو ما يدفعها إلى تصديق هذا اللطف المؤقت.
قال أحمد، دون أن يلحظ اضطرابها:
— “عصير التفاح جاهز.”
— “شكرًا لك.”
أمسكت الكوب بين يديها، ارتشفت منه. طعمه كما اعتادته، لكن شهية قلبها لم تعد كما كانت.
— “الوقت تأخّر. فلنذهب إلى مبنى البلدية.”
بدا عليه الانزعاج:
— “ألن تشربيه؟”
— “لا رغبة لي بذلك.”
أجابت بهدوء.
لو كانت هذه في الماضي، لكان قد ألحّ عليها بصبر. الآن، لم يعلّق. فقط سكب العصير في الحوض بلامبالاة.
مر بجوارها وقال بصوت بارد:
— “هيا بنا.”
ثم ناول قارورة الترمس إلى هشام قائلاً:
— “أرسل هذا إلى خليج النوارس.”
— “حسنًا، سيد القيسي.”
في تلك اللحظة، شعرت نوران بيقين داخلي:
لا شيء يُصلح ما كُسر.
عام كامل من المحاولات ذهب سُدى.
كل شيء كان مجرد وهم.
خرجت بسرعة. وبينما مرّت بشجرة التفاح، هبّت نسمة أسقطت الورقة الأخيرة.
رفعتها ببطء، تأملتها.
“ما الذي تحملينه أصلًا؟”
ثم رمتها وسحقتها تحت قدمها.
ركبت السيارة. رغم دفئها، كان الصمت بينهما قارسًا. جلسا على طرفي المقعد… كقطبين متنافرين، لا يلتقيان.
الطريق إلى مبنى البلدية كان خاليًا، الإشارات خضراء… كأن القدر يُمهّد لطلاقهما.
عند أحد التقاطعات، رنّ هاتف أحمد.
كان صوت مرام من الطرف الآخر:
— “أحمد، رُكان يعاني من حمى شديدة. لم أرد إزعاجك، لكن حرارته 103… أنا خائفة، أرجوك أسرع—”
— “أنا قادم.”
أغلق الهاتف بسرعة، ثم التقت عيناه بعيني نوران.
عيناها كانتا زجاجوادين، لكن الغضب فيهما لم يكن خفيًا.
سألت، ببطء، بوضوح، وكل كلمة خرجت كطعنة:
— “ما اسم الطفل؟”
رواية حتى بعد الموت الفصل 8
