رواية عشق لا يضاهى الفصل 61 بقلم اسماء حميدة

عشق لا يضاهى

الفصل 61

راودت سيرين ظنونٌ بأنه تذكّر هذا المكان وسيحاول تطويقه حولها كسياجٍ من الأسئلة لإجبارها على الاعتراف بأنها لم تفقد ذاكرتها كما ادّعت لكنها انتظرت عبثًا.. فهو لم يفعل.  

أحكم ظافر قبضته على عجلة القيادة كأنما يتشبث بها ليكبح أمواج أفكاره ثم سأل بصوتٍ خفيض لكنه مشحونٌ بثقلٍ موجع:  

“ماذا حدث لذلك الطفل سيرين؟” 

زاغت نظراتها كما لو أن الكلمة نفسها أطلقت عليها رصاصة باردة ومن ثم تجمّدت حدقتاها وكأن الزمن قد توقّف عند تلك اللحظة المشؤومة. 

حاولت سيرين بجهد مضني أن تسيطر على اضطرابها فرفعت حاجبيها ببطء وسألته بنبرة أقرب إلى البرود المصطنع:  

“أي طفل؟ ما الذي تتحدث عنه؟” 

تأرجحت ملامحه بين الضيق والانزعاج وزفر بعمق قبل أن يقول بصوتٍ منخفض لكنه حاد:  

“عن…”  

صمت ثم انحرف بالسيارة إلى جانب الطريق يوقفها بحدة واستدار بكامل جسده إليها وعيناه غارقتان في ظلالٍ من الاكتئاب الحاد. 

صمته اللحظي لم يكن سوى محاولة منه كي ينتقي كلماته بعناية ثم قال بهدوء العاصفة قبل أن تنفجر:  

“أعلم أنكِ كنتِ حاملًا مني وقتها.”

حدّق بها طويلًا كأنما يريد أن يغوص بداخلها، أن يمسك خيوط الحقيقة المختبئة خلف جدران صمتها. 

كانت عيناه تقولان أكثر مما نطقت به شفتاه كأنهما تمزقان ساتر الزيف بحثًا عن النور.  

جفلت سيرين وتسارعت أنفاسها للحظة قبل أن تخفي ارتجافها خلف قناعٍ بارد إذ راودها الذعر من أن يكون قد كشف سرّها.. أن يكون قد تعرف على حقيقة زكريا فإن حدث ذلك فماذا سيمنع ظافر من انتزاعه منها؟ 

لا.. لا يمكنها السماح بذلك.  

حبست أنفاسها لبرهة وأجبرت نفسها على التماسك ثم قالت بصوتٍ متزن وإن كان يخفي ارتعاشًا دقيقًا:  

“كل ما أتذكره أن الطبيب أخبرني أنني فقدت الطفل.” 

كأن كلمتها الأخيرة كانت شظايا زجاج أصابت قلبه في مقتل، فهو لم يتوقع أن يسمعها لكنه كان يعرف في أعماقه أن الأمر لم يكن ليستمر كما تمنى، فلو كان الطفل على قيد الحياة لما عادت سيرين إليه بمحض إرادتها.  

كما أن الرجال الذين أرسلهم لمراقبتها لم يلمحوا أي طفلٍ، أجل لم يكن هناك أي دليل على وجوده، ثم كيف كانت ستنجبه وهي في حالتها تلك؟ إذ كانت ضعيفة.. مرهقة.. مسلوبة القوى، هذا ما دار بعقل ظافر. 

ابتلع غصته بعد أن شعر أن الهواء أصبح ثقيلًا على رئتيه وبقي صامتًا طويلًا، وعيناه الغائمتان بالعبرات تعلقتا بالأفق كأنه غريق يحاول أن يجد شيئًا يتمسك به وسط العدم.  

أما هي فقد جلست في مقعدها بجواره تتظاهر بالتماسك لكن قلبها كان يطرق صدرها بعنف إذ كانت تخشى أن ينكشف المستور وتتبدد الأكاذيب التي بنتها حجرًا فوق حجر.  

تمتم ظافر وقد اختنق صوته يقول بتحشرج:

“كنت أريد طفلة تشبهك، ليس كما أنت الآن… لا… بل كما كنتِ” 

قالها ودعست قدمه على دواسة البنزين بقوة فتحركت السيارة مُصدرة صوت صرير مزعج كمن يلقي بغضبه على تلك الكومة من الحديد التي لا حول لها ولا قوة. 

وفي طريق العودة لم يتبادلا كلمة واحدة.. لكن الصمت بينهما لم يكن صمتًا عاديًا. كان صمتًا مشحونًا، متوتّرًا كأنه الفراغ الذي يسبق اندلاع حمم بركان ثائر.

وما إن أغلقت سيرين باب المنزل خلفها حتى حملت الهاتف بيدين مرتجفتين واتصلت بكارم. 

لم تكد تمرّ ثانية حتى جاءها صوته العميق يفيض بجاذبية رجولية آسرة:

“ما الخطب سيرين؟”

كان كارم يدرك تمامًا أنها لا تتصل به إلا إذا كانت الغيوم تتلبد في أفقها فالريح لا تعصف إلا حين تتأزم الأمور.

همست سيرين بصوت متحشرج وكأن الكلمات تخنقها قبل أن تخرج:

“لقد وجدني ظافر… سألني عن الطفل، إنه يعلم أنني كنت حاملاً من قبل.”

ساد الصمت للحظة، ثم جاء صوته يحمل دفئًا يشبه احتضانًا خفيًا عبر الأثير:

“اهدئي… لقد غيرتُ تاريخ ميلاد زكريا ونوح.”

شعرت سيرين كأن ثقلاً كان يطحن أنفاسها قد انزاح، فأغمضت عينيها بارتياحٍ مؤقت، وتمتمت:

“هذا مطمئن.”

لكنه لم يترك لها مساحة للقلق من جديد، فأردف بحزم يشبه سورًا منيعًا يحوطها:

“لا تقلقي، طالما أنا هنا، لن يستطيع أحد أن يأخذ نوح وزكريا منك.”

وعلى بعد آلاف الأميال وقف كارم في شرفة زجاجية تطل على البحر حيث تتعانق أمواجه مع السماء في الأفق البعيد، وخلفه في قاعة اجتماعات فاخرة جلس عدد من المديرين التنفيذيين يراقبونه بصمت وهو ينهي مكالمته. 

أغلق كارم الهاتف على مضض ثم التفت إلى مساعده قائلاً بصوت خفيض لكنه مشحون بتيار من التحذير:

“ابقَ متيقظًا… رجال ظافر سيتعقبون هاتف نوح، لا تدعهم يصلون إليه.”

كان كارم قد لاحظ منذ أيام أن هناك من ينقب في ماضي سيرين لكنه لم يخبرها حتى لا يبث الرعب في قلبها لكنه الآن بات يدرك أن يد ظافر امتدت إلى ما هو أبعد مما ظن.

في تلك الليلة تسلل كابوس إلى عقل سيرين كأفعى تزحف في عتمة روحها إذ رأت ظافر وهو ينتزع طفليها من بين ذراعيها لكنه لم يكن يريد استعادتهما فحسب بل أراد أن يمحو وجودهما كأنهما لم يكونا يومًا. 

صرخت، تضرعت، لكنه كان واقفًا هناك يبتسم ببرودٍ جليديّ وقبل أن تمتد يده إلى نوح استفاقت فجأة وجسدها يرتجف كأوراق الخريف المتناثرة تحت عاصفة عاتية.

تحسست وجهها فقد كان جبينها مبللاً بطبقة من العرق البارد بينما قلبها يدق بجنون كطبول حرب أوشكت على الاندلاع. 

ارتجفت فلا تزال ذكرى الماضي تطاردها يوم حثتها شادية على الإنجاب سريعًا بعد زواجها بظافر وكيف ألقى عليها ظافر كلماته ببروده القاسي:

“أولًا لن ألمسك وإن حدثت معجزة وحدث الحمل فلن أسمح لهذا الطفل أن يرى النور!”

كان صوته آنذاك جارحاً كحد السيف وكلماته مسمومة كجرعة قاتلة، لكن الليلة لم يعد هناك متسع للذكريات فعليها أن تتحرك وبسرعة.

في الصباح وقفت أمام المرآة تنظر إلى انعكاسها نظرة امرأة تعرف أنها تدخل حربًا غير معلنة، حربًا لا يُطلق فيها الرصاص لكنها أشد فتكًا من ألف معركة.

اختارت ثوبًا يعانق قوامها برقة ووضعت مسحة من المكياج تكفي لمنح ملامحها وهجًا خافتًا لا يثير الشكوك وحين تأكدت أن مظهرها يعكس الثقة التي تحتاج إليها التقطت حقيبتها وقبل أن تغادر دسّت فيها شيئًا صغيرًا… معدات جمع السائل المنوي استعداداً لأي طارئ.

خرجت وخلفها أغلقت الباب على ماضٍ يلاحقها كظلٍّ لا يختفي.

الفصل 62  

لم يوقفها ماهر هذه المرة بل لم يرفع يده ليعترض طريقها كأن الأقدار قد أزاحت لها العوائق وألقت بها إلى مصيرها دون تردد. 

لم تعد هناك حواجز لا بين قدميها وبوابة المكتب ولا بين قلبها وما يضرم داخله من صراعات لم تهدأ يومًا.  

في الطابق العلوي وقف ظافر عند النافذة الزجاجية الممتدة من الأرض إلى السقف كأنه حاجز شفاف بينه وبين هذا العالم. 

وهناك سيجارة تتأرجح بين أصابعه دخانها منتشر حوله كالتواء أفعى تهمس له بأفكار مبعثرة. 

صدى كلماتها ظل يتردد بأذنه منذ الأمس ترنّ في ذاكرته كموجة مرتطمة بصخور الواقع، تتكسر ثم تعود لتهاجمه من جديد.  

لقد أجهضت… واختفى طفلهما منذ زمن لكن قلبه الآن يرفض التصديق كأن الفقد لم يحدث إلا في هذه اللحظة بالذات، شعور غريب وكأنه لم يفقده حين غادر الحياة بل فقده تواً وأمام عينيه، هنا داخل صدره وكل نفس يخرج من رئتيه لا يحمل سوى طعم الرماد.  

دقّ الباب كأن الصوت جاء ليوقظه من بحر أفكاره العاصف، فانخفض بصره يرمق السيجارة بنظرة خاوية ثم أطفأها ببطء… فكان المشهد ليس مجرد دخان يتلاشى بل أثر يريد محوه كأن في احتراقها اندثار لألم لا سبيل للخلاص منه.  

قال ظافر بصوت هادئ محايد حدّ البرود لكنه يخفي خلفه فيض من المشاعر:  

“ادخل.”

تحرك مقبض الباب ببطء كأن الزمن نفسه يتردد قبل أن يكشف عن اللحظة القادمة، وما إن انفتح حتى وقفت سيرين هناك كأطياف الذكرى وقد تجسدت من جديد. 

انعكس ضوء النافذة على ملامحها فسكب عليها وهجًا ناعمًا كما لو أن الليل استعان بقمر سماءه ليمنحها هالة من الغموض الأخاذ.  

أمامها انتصب ظافر بنفس الوقفة التي التقت بها عيناهما أول مرة… شامخًا بثقة رجل يدرك أثر حضوره. 

كانت بذلته المفصّلة عليه كأنها امتداد لهيبته تتبع خطوط جسده بانسيابية دقيقة في حين أن أضفى انعكاس الضوء على قسماته مزيدًا من الوسامة كتمثال منحوت بعناية ليجسد القوة والجاذبية في آنٍ واحد.  

نظرت إليه سيرين وقد سرت في جسدها رجفة خفيفة كأنما فتحت نافذة على الماضي دون قصد ليسيطر عليها الشعور ذاته الذي اجتاحها حين التقت به أول مرة. 

لحظة تتكرر دون سابق إنذار كأن الزمن قد قرر أن يعيد فصوله ليمنحها فرصة أخرى لفهم ما لم تدركه من قبل.  

أما هو فكانت عيناه تلتقط تفاصيلها كما لو كان يراها للمرة الأولى، وجهها الذي يحمل من الرقة ما يبعث على الاضطراب، وقوامها المتناسق الذي ينساب في الفراغ بخفة، ثم تلك الهالة التي تحيط بها دومًا وكأنها نوتة موسيقية يتردد صداها في المكان قبل أن تصل خطاها. 

لم يبعد بصره عنها وهي تغلق الباب خلفها وتتقدم نحوه. 

خطواتها بدت واثقة لكنها في داخله تركت وقعًا لا يُحتمل وكأنها تدعس على قلبه مباشرة.  

توقفت سيرين على مسافة قصيرة ثم نطقت بصوت هادئ لكنه يحمل في طبقاته رجع زلزال من المشاعر التي لم تجد مخرجًا من قبل:  

“سيد نصران… بعد محادثتنا بالأمس راجعتُ بعض السجلات القديمة وأدركتُ أنني كنت مخطئة… لقد كنا متزوجين بالفعل.”  

انقطع الهواء من حوله للحظة ورمشت أهدابه سريعًا كمن يحاول استيعاب كلماتها لكن صدمته لم تمنح شفتيه فرصة للرد. 

لم تمهله هي كثيرًا فتابعت بصوت خافت كمن يميط اللثام عن سر ظل حبيسًا في أعماق قلبه طويلًا:  

“هناك شيء آخر… كذبتُ بشأن الموعد الأعمى. في الحقيقة كنت هناك نيابةً عن أعز أصدقائي.”  

ظل صامتًا لكن ملامحه كانت تصرخ بكل الأفكار التي تضاربت داخله فبعد مغادرتها أمس لم يهدأ له بال فبحث بنفسه وعندما اكتشف الحقيقة، لم يعرف أيهما أشد وقعًا عليه… كذبها أم سبب كذبها.  

لكن الآن وهي واقفة أمامه تعترف بمحض إرادتها شعر بأن كل قناعاته تتهاوى دفعة واحدة. 

عقد حاجبيه قليلًا ثم سألها بصوت منخفض لكنه يحمل ثقلًا لم يخفى عليها:  

“هل أتيتِ إلى هنا فقط لتخبِريني بهذا؟”

كانت عيناه تتبعانها كظلها، تنقبان في ملامحها عن إجابة لم ينطق بها لسانها، إجابة ربما تخشى حتى هي أن تواجهها.

عيناها الصافيتان كانتا معلقتين به كأنهما مرآتان تعكسان ترددها وصراعها الداخلي. 

ثم وبحركة خفيفة بالكاد لامست الهواء هزّت رأسها وقالت بصوت خافت لكنه ثابت:  

“لقد حسمت أمري وأريد استعادة ذكرياتي… لكن هناك أمورًا تائهة بين الضباب لا أفهمها تمامًا وأحتاج منك إجابات واضحة.”  

كانت قريبة، قريبة حدّ أنفاسه حتى أن بصره التقط لمحة من انحناءة رقبتها من ذلك الخط الرفيع بشق صدرها الذي يفصل بين البراءة والفتنة. 

شعر بانقباض خفيف في حلقه وتحركت تفاحة آدم خاصته ببطء كأنها تعكس إثارةً عميقة تسللت إلى أوردته. 

سألها وصوته يحمل طبقة من الارتباك:  

“ماذا تريدين أن تعرفي؟”

تعلقت عيناها به للحظة ثم جاء السؤال خفيفًا كريشة لكنه حمل ثقل الأعوام المنسية:  

“هل كنا عاشقين؟ أعني… هل كنت أحبك بصدق؟”

لم يكن التغيير في ملامحه خفيًا على العكس كان أشبه بانكسار المرآة تحت وطأة الحقيقة. 

حاول ظافر أن يخفي انفعاله لكنها رأت، شعرت بل ربما تذوقت مرارة الرد قبل أن ينطقه. 

ومع ذلك استرسلت وكأنها تدفعه إلى مواجهة حقيقة لن تفلت منها:  

“رغم كل هذا الغياب، رغم الفراغ الذي يسكن ذاكرتي فهناك يقين وحيد لا يتزعزع بداخلي وهو أنه لم أكن لأتزوج رجلًا لا أحبّه.” 

في تلك اللحظة انطفأت شرارة التردد في عيني ظافر وحل محلها بريق غامض كوميض برق في سماء عاصفة. 

نظر إليها بعُمق كأنما يحاول أن ينحت ملامحها في ذاكرته من جديد ثم نطق وكل كلمة خرجت من بين شفتيه بدت وكأنها محفورة في قلبه قبل أن تصل إلى مسامعها:  

“نعم، كنتِ مغرمة بي حدّ الذوبان.”  

كان صوته رخيمًا لكنه مهتز كأنه يعبر نهرًا جليديًا على أقدام عارية. 

بريق خافت في عينيه لم يكن سوى انعكاس لسطوتها عليه لذا حين لاحظت سيرين ذلك شعرت بأنها اقتربت أكثر مما كانت تظن.  

ببطء وتمهل مقصود ارتفعت على أطراف أصابعها ثم انحنت بجسدها تميل إليه فتقلّصت المسافة بينهما حتى لم يبقَ بينهما سوى ذرة هواء أخيرة، وهمست كمن يلقي تعويذة:  

“أريد أن أختبر هذا الحب… أن أعرف إن كان حقيقيًا.”  

وفي لحظة لم يمهلها فيها المنطق فرصة للتراجع كانت شفتاها تلامسان شفتيه في قبلة لم تحمل إلا براءة الاكتشاف الأول كلمسة ريشة على ماء ساكن.

للحظة تجمّد جسده كأنه عالق بين ذهول اللحظة وإغوائها لكنه لم يكن رجلًا يسمح لنفسه بالبقاء متفرجًا طويلًا…  

كانت مفاجأته تتصارع مع نداءٍ عتيقٍ في صدره، نداءٌ ظلّ يتردد في أرجاء روحه منذ زمنٍ لم يعترف به. 

انكسرت سيطرته كزجاجٍ تهاوى على رخام فانقلبت الموازين إذ صار هو من يقود المشهد أو ربما استسلمت القيادة لرغبةٍ كامنة كانت تتخفّى تحت سطحٍ متماسك من الكبرياء والتريّث.  

ثم أُسدل ستار الليل وابتلع الظلام الغرفة ليصبح شاهداً على همساتٍ لا تعترف بالحدود. 

كانت أنفاسهما تعزف سيمفونية خافتة نوتاتٍ تتصاعد بين اللهفة والتردد كأنهما في رقصةٍ أزلية بين الشوق والخوف.  

لكن فجأة كأن القدر قرر التدخل إذ دوّى صوت طرقٍ عنيف على الباب.  

تجمدت أصابعها فوق صدره بل تجمّد الزمن بينهما كأن اللحظة السابقة لم تكن إلا حلمًا على وشك أن يتلاشى.  

همس ظافر بصوتٍ بالكاد يُسمع كمن يخشى أن يخسر الشيء الوحيد الذي منحه الحياة للحظة:  

“لا، سيرين… لا تبتعدي، أريدك هنا بين ذراعي.”  

لكن الواقع كان أقوى من الرجاء.

خارج المكتب كانت دينا واقفة تتجاهل محاولات ماهر لمنعها، وقلبها يخبرها أن هناك شيئًا ما ليس على ما يرام وعندما وصلت وجدت باب مكتب ظافر مغلقًا بإحكام فشعرت بانقباضٍ في صدرها وحدسٌ غامض يخبرها أن ما خلف هذا الباب قد يغيّر كل شيء.  

داخل الغرفة عقدت سيرين حاجبيها إذ لم تكن تتوقع أن يأتي أحدٌ في هذا التوقيت فدفعت ظافر برفقٍ بعيدًا تنفست بارتباكٍ قبل أن تهمس متجنبة عينيه:  

“هناك شخص هنا…” 

لقد استمع ظافر بالفعل للطرق المتواصل ولكنه يأبى الابتعاد. 

ضيق عينيه في إحباطٍ مكبوت للحظة شعر بالكراهية الشديدة لهذا الدخيل الذي لم يكف عن الإزعاج كمن يلعن من يريده أن يُنتزع من حلمٍ قبل اكتماله.

وبعد دقيقة انفتح الباب ببطء ودخلت دينا وعيناها تمشّطان المكان حتى استقرتا على سيرين التي تخضبت وجنتيها ملتقطة ذلك البريق في عينيها ففهمت كل شيء دون حاجة إلى تفسير.  

حاولت أن تسيطر على ارتجافةٍ خفيفة في أنفاسها وشدّت قبضتها على الورقة التي في يدها ثم تقدمت نحو ظافر ومدّت يدها بالرسالة كأنها تقدم له شيئًا أثقل من مجرد ورقة، تقول بغنج: 

“ظافر سأصدر أغنية جديدة الليلة وآمل أن تتمكن من الحضور… لقد كتبت هذه الأغنية لك.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top