الفصل 64
بالمقارنة مع الحضور بدا ظافر كجزيرةٍ هادئة وسط بحرٍ من الصخب، عيناه تسبحان في صمتٍ بليغ وملامحه تنطق برزانةٍ لا تخلو من الغموض.
سقط بصرُ دينا على سيرين كوميض برقٍ خاطف، فخفضت صوتها عبر المكبر بالكلمات كمن يلوّح بخنجرٍ في غمدٍ مخملي:
“رغم ما مررت به مع حبي الأول من تقلباتٍ واختباراتٍ، ورغم أن الزواج لم يكن من نصيبنا إلا أنني لا زلتُ أؤمن بأنه قدري وسنلتقي مجددًا في نهاية المطاف.”
جملةٌ بدت في ظاهرها بوحًا لكنها حملت في طياتها تحذيرًا مغلفًا بالسُكر موجَّهًا إلى سيرين تحديدًا.
بدأت الفقرة الموسيقية وانتشر في الأجواء لحن أغنية دينا الجديدة فغمرت القاعة أنغامٌ حالمة تُداعب الأرواح وتنعش الذكريات.
كان في وقع اللحن ما يشبه الهمس كأنّه يبث لذاكرة سيرين شيءٍ من الحنين… مألوف لكنه ضبابي يتلاشى كلما اقتربت من ملامحه.
قال ظافر بصوتٍ خفيض تكاد نبراته تنساب كنسيمٍ بارد:
“اللحن آسر… لكن للأسف، دينا أفسدته بصوتها.”
كلماته أفاقت سيرين من شرودها كمن أُوقظ من حلمٍ نصف جميل.
في هذه الأثناء كانت دينا نجمة تتلألأ على المسرح لكن صوتها بدا كظلٍ باهتٍ لصورةٍ أكثر إشراقًا.
تطلّع ظافر إلى سيرين وسأل بنظرةٍ تقرأ الذاكرة:
“أتذكرين حين كنتِ تستمتعين بالغناء؟”
كادت تنسى لولا أنه أعاد فتح الصندوق القديم كانت قد ورثت الحسّ الموسيقي عن سارة لكنّ الصمم الجزئي ظل يعبث بها كقيد حديدي في عالمٍ لا يرحم الضعف.
لقد سمعها ظافر مرةً صدفةً تهمهم بلحنٍ قديم وذُهل من نقاء صوتها وللآن يعتقد حينها أنها لو غنّت لصمت العالم بأكمله ليستمع.
أجابته سيرين بنبرة ساخرة تخفي اضطرابًا خفيفًا:
“حقًا؟ لا أذكر.”
في ضوءٍ خافتٍ شبيهٍ بضوء شمعةٍ على وشك الانطفاء نظر إليها ظافر مجددًا وعيناه تلمعان كوميض سرّ دفين:
“وهل تتذكرين أن حبيب دينا الأول… كان أنا؟”
كان حضوره كتجسيدٍ لذكرى مشتعلة إذ جاء ليختبر ردة فعل سيرين كمن يقيس عمق الأثر في عينيها بعد أن تركت دينا كلماتها تتسلل كسمٍ في العسل.
تابع يلقي قنبلته ببطءٍ محسوب:
“أنتِ من خطفتيني منها.”
قالها بوضوحٍ آسر وكأنّه ينطق بحقيقةٍ مطلقة.
كتمت سيرين غليانها بغيظ فهو كاذب بارع، يحرّف الواقع كما يتلاعب الرسام بملامح وجهٍ ليرسمه كما يشتهي.
ابتسمت سيرين بتهكم فهي تذكر أن انفصاله عن دينا سبق حتى التفكير في زواجه بها لكنها لم ترد أن تظهر ضعفها.
رمقته بمكر وقالت وقلبها يشتعل:
“حقًا؟ في الحقيقة أنا أعاني من ضعفٍ في السمع لا العمى، هل كنتُ حينها بهذا القبح لأدخل في منافسةٍ مع دينا على رجل؟”
ارتبك ظافر وجحظت عيناه للحظة كأن سهمًا مباغتًا اخترق كبرياءه، فتمتم يقول بحدةٍ مستترة:
“أترين في غيري من الرجال ما يفوقني؟”
كاد أن يطلب منها تفسيرًا لو لم يكونا محاطين بهذا الجمع ولكنه لم يفعا.
التقطت سيرين شرارة الغضب في نبرته فاختارت أن تتراجع قليلاً كي تضع حدًا للنار قبل أن تضرم:
“كنت أمزح سيد نصران، لا تأخذ الأمر على محمل الجد.”
زفر بإحباط وكان صوته أشبه بزمجرة بركانٍ مكبوت:
“الأمر يمسني… إنه شخصي جدًا.”
كيف له ألا يتأثر؟
لقد عادت سيرين بوجهٍ جديد، بروحٍ مُقفلة وكأنها تحمل في داخلها مدينة من الأسرار.
في هذه اللحظة أراد أن يقول المزيد، أن يكسر الجدار الزجاجي بينهما لكن الأغنية قد انتهت، وبكل صدق وبعد أولى العبارات لم يعد لا هو ولا سيرين يلقون بالاً لما كانت دينا تغنيه.
وبالرغم من أن المسرح كان يعجّ بالصوت، لكنّ المعركة الحقيقية كانت تدور بين نظرتين… وصمتٍ يقول كل شيء.
ساد القاعة صمتٌ قصير عقب انتهاء الأغنية لكنه لم يكن كأي صمت… كان كثيفًا مُحمّلًا بما لم يُقال كأنّ الكلمات التي لم تُنطق علِقت بين شفاه الجميع لكنها كانت أثقل ما يثقل الهواء بين ظافر وسيرين.
نظر إليها ظافر مجددًا لكن هذه المرة لم تكن النظرة مجرد عبور بل سبرٌ لأعماقٍ لا يُفصح عنها الكلام، مال إليها وأنفـ ـاسه تداعب عنـ ـقها
“أتعلمين؟” همس ونبرته تحمل شيئًا يشبه الاعتراف أو التحدّي… “حين أراكِ الآن لا أراكِ كما كنتِ، لقد تغيّرتِ كثيراً سيرين… لكنّ عينيكِ؟ لم تخوناني يومًا ما زالتا تحملان شيئًا أعرفه جيدًا.”
أحسّت سيرين برجفة تسري بطول عمودها الفقري كأن كلماته لم تمرّ على أذنيها فقط بل لامست أوتارًا صدئة داخل صدرها.
أرادت أن ترد، أن تُسكته لكن الحروف خانتها كالعادة.
نظر أمامه، كأنه يحاول أن يلقي بجمراته بعيدًا عنها لكنه فشل إذ قال بعد لحظة صمت:
“كنتُ أكره الضوضاء… وما زلت، لكنّكِ أبداً لم تكوني ضوضاء، كنتِ شيئًا آخر… نغمة لا تُشبه أحدًا.”
ازدردت ريقها وهي تشعر بكلماته تحاصرها كأمواجٍ لا تترك لها مهربًا،
أرادت أن تُكذّبه، أن تُعيد بناء جدرانها التي بدأ يهدمها لكنّه فجأة استدار نحوها وهمس:
“أتدرين ما يؤلم؟ ليس أنكِ غادرتِ بل أنكِ عدتِ غريبة. باردة. صلبة كالحجر… لا أعرفكِ.”
تشنّج فكّها وحاولت أن تبقي صوتها ثابتًا لكنها لم تنجح تمامًا:
“وهل توقعتَ أن أعود كما كنت؟ الحياة لا تُعيدنا كما نحن بل كما جعلتنا.”
اقترب حتى صار صوته لا يُسمع إلا لها، وكأنهما دخلا نفقًا من العزلة وسط كل هذا الزحام، مردفاً بصوت متحشرج:
“وأنا؟” سأل بمرارةٍ مختلطة بالرجاء. “هل غيّرتك الحياة عني أم مني؟”
تسارعت أنفاسها كأن سؤاله نكأ جرحًا قديمًا ظنّت أنها دفنته فلم تجب إذ كانت تلك أول مرة منذ عودتها تشعر بأن قناعها بدأ يتصدّع… وكأن عينيه تعرفان كيف تخلع الأقنعة دون أن تلمس.
أعاد بصره إلى المنصة وقال ببرودٍ مصطنع كمن يهرب من ساحة معركةٍ لم تُحسم:
“لم تكن الأغنية سيئة… لكنّكِ بلا شك كنتِ أكثر لحنًا منها.”
لم تنتبه إن كانت ابتسمت أم اختنقت بتلك الجملة الأخيرة.
أما دينا التي تحتل المنصة كانت كنجمةٍ أفلت لتوّها من سماء العروض تخطو إلى الخلف ببطءٍ محسوب وابتسامتها لا تزال معلّقة على شفتيها بينما عيناها الواسعتان تجوبان المكان كصقرٍ يترصّد فريسته من علٍ.
أخذت دينا تنظر إليهما من بعيد نظرة أنثى تستشعر في الأفق خطراً بل نبضُ تهديدٍ قديمٍ يعود للحياة في قلب رجلٍ اعتقدت أنّها قد تستحوذ عليه يوماً.
ما إن أسدل الستار على الأغنية حتى دوّى التصفيق كعاصفةٍ تمرّدت على سكون الليل، تصفيقٌ بدا أكبر من حجم الأداء ذاته كأن اللحن وحده كان يكفي ليُشعل الحماسة في الأرواح فرغم أن أداء دينا لم يكن استثنائيًا إلا أن اللحن الجديد كان ساحرًا يحمل بين نغماته شيئًا من الحنين الموجع… شيئًا يصعب تجاهله إذ كان أكثر نضجًا، أكثر عمقًا من كل ما قدّمته من قبل.
لم يكن أحد يتوقع أن تلقى هذه الأغنية تحديدًا كل هذا الصدى إذ بدا وكأنها فتحت بابًا جديدًا في مسيرتها طغى على ما قبله وارتفعت به فوق الشكوك والانتقادات القديمة.
وسط أضواء المسرح التي بدأت تخفت وبين ابتسامات المصفقين التي امتلأت إعجابًا التفتت دينا وحدّقت في سيرين مباشرة كمن يلوّح بكأس النصر في وجه خصمه.
ابتسمت دينا لا بفخرٍ فقط بل بشيءٍ من التحدي، وهي تخدع نفسها بأنها نجحت من جديد، وأثبتت لحالها قبل غيرها أنها لا تقلّ عن سيرين شيئًا بل ربما تفوّقت عليها هذه المرّة.
بعد أن انحسر الزحام وتراجعت عدسات الصحافة وانطفأت فلاشات الكاميرات تقدّمت دينا نحوهما بخطواتٍ مدروسة وكل تفصيلة في مشيتها كانت تحمل نغمةً خفيّة من الغرور الممزوج بالثقة، وتوقفت أمام ظافر وسيرين تلقي تحيّتها بصوتٍ رخيمٍ صيغ بعناية كأن كل كلمة فيه نُسجت لتصل إلى عمق ما بينهما:
“كنت أعلم أنكما ستكونان هنا يا ظافر… أنت لم تفوّت يومًا لحظاتي الهامة أليس كذلك؟”
نظرت إليه دينا بعينين تقدحان الشرر والدهشة معًا فنبرة صوتها وإن بدت مرِحة لكنها حملت ما بين السطور أكثر مما قالت وكأنها تُذكّره بماضٍ لا يمكن تجاهله وبأن حضوره ليس مجرّد صدفة عابرة.
أما عن سيرين التي لم تتحدث بعد شعرت بتقلبٍ داخلي عنيف، والمشهد كلّه بدا لها كلوحةٍ مرسومة بعناية لجرحٍ قديم يُعاد فتحه أمامها ببطء وبحضور الجميع.
وبخصوص الضيوف الذين التقطوا ما قالته دينا بحماسة لا تخفى فقد تبادلوا النظرات والتكهنات وفي نظرهم بدا المشهد واضحًا:
ظافر، النجم اللامع في سماء المال والأعمال لم يحضر لأجل العرض أو الأغنية بل لأجل دينا.
لكن الحقيقة… لم تكن بهذه البساطة أبدًا.
وقفت سيرين كتمثالٍ من صخرٍ بارد، تتلقى السهام المغلفة بالمجاملات وكأنها تعرف جيّدًا أنها لم تكن ضيفة شرفٍ في هذا اللقاء بل ضحية دعوةٍ خطط لها بعناية.
نظرات دينا إليها كانت كخنجر تنحت به في قلب سيرين ذكرى وتترك فوق شفاهها ابتسامةً مصطنعة من ذهبٍ مزيّف.
لكن سيرين لم تكن ضعيفة… لا بعد ما مرّت به إذ رفعت ذقنها بثقة ونظرت إلى دينا بابتسامة هادئة لكنها في داخلها كانت كسربِ نحلٍ غاضب يطوف في عروقها.
قالت سيرين بنبرة رصينة تُخفي تحتها ما يكفي من السخرية:
“كان عرضًا رائعًا… الأغنية تحمل شيئًا خاصًا لا يشبه أعمالك السابقة، أهنئكِ.”
كلماتها خرجت مثل قُبلةٍ باردة على خدٍ محترق.
أما ظافر فكان يقف بينهما كفتيلِ قنبلةٍ على وشك الانفجار يضع يداه في جيبيه وعيناه تراقبان هذا الحوار الذي بدا سلميًّا على السطح لكنه كان مشبعًا بالدخان والحذر والتاريخ.
“أتعرفين يا سيرين؟” قالت دينا وهي تزيح خصلة شعر عن وجهها بتأنٍّ متعمد “كنت أفكّر أثناء الغناء… أن هذه الأغنية أظنّك قد سمعتِها من قبل أليس كذلك؟”
نظرت إليها سيرين دون أن ترد فقد كانت تلك الجملة كمطرقةٍ على جدارٍ بالكاد رمّمته.
أجل… اللحن لم يكن غريبًا بل كان يهمس لشيءٍ قديم، مألوف، مأخوذ من زمنٍ آخر… لحنٌ ترنمت به أناملها ذات مساء حين كان ظافر جالس في شرفةٍ مظلمة وهي تعزفه بلا وعي على بيانو الطابق العلوي.
سقطت تلك الذكرى من ذاكرة سيرين كقطرة حبرٍ في كأس ماء… تشوّه الصفاء وتكشف المستور.
ابتسم ظافر أخيرًا ابتسامة غامضة فيها شيء من الندم السخرية ثم قال بصوتٍ خفيض:
“غريبٌ كيف تعود الألحان لتطرق أبوابنا في أكثر اللحظات صمتًا.”
رمقته دينا بنظرةٍ سريعة، ثم قالت:
“أحيانًا… تحتاج الموسيقى لمن يمنحها الحياة وتلك وظيفة الأذن التي تسمع… فليست كل الآذان صالحة لذلك.”
تجاهلت سيرين الإهانة المغلّفة لكنها لم تغب عنها، أرادت الرد لكن شيئًا ما كبّلها، ربما لأن ظافر كان يراقبها، يبحث عن ارتعاشة، عن نظرة، عن كلمة تعيد له يقينًا فقده.
اقتربت دينا قليلاً من ظافر وكأنها توشوش له أمام الجميع ثم همست بما يكفي لتسمعه سيرين:
“سأكون بانتظارك بعد الحفل… لا تتأخر.”
ثم مضت تتمايل بخطواتٍ لا تخلو من استعراضٍ مدروس وكأنها خرجت من مشهدٍ سينمائيٍّ لم يُكتب لسواه.
ظلّت سيرين واقفة تشعر أن الهواء من حولها صار أكثر لزوجة، أكثر ثِقلاً… كأن أنفاسها نفسها باتت تتلعثم.
أدار ظافر وجهه نحوها وكانت عيناه تسألان سؤالًا لم يُنطق: “هل يهمّكِ الأمر؟”
لكنها لم تجب فقط هزّت كتفيها بلا مبالاة، وقالت بنبرةٍ باردة تتجاهل سؤاله الأخير وبالرغم من أنه أضاف المزيد لجراحها عندما استمع كما استمعت لإهانة دينا لها، إلا أنها شاكرة له كونه لم يفتعل المشكلات في جمع كهذا حينها سيكون الخزي مضاعفاً وسيزيد حرجها وعلى مرأى من الجميع، فتمتمت غافلة عن وعيده لدينا:
“إنه حفلٌ رائع… لا أكثر.”
لكن في عينيها، كان هناك شيء آخر. شيءٌ لم يُقال ولم يُخفَ تمامًا…