رواية عشق لا يضاهى الفصل 66 بقلم اسماء حميدة

عشق لا يضاهى

الفصل 66

سألتها سيرين بصوت هادئ كخنجر مغموس بمادة كـ ـاوية:

“أتظنين حقًا أنكِ بلغتِ كل هذا بمفردك؟ هل توهمتِ أنكِ ارتقيتِ سُلم المجد بيدكِ وحدكِ؟ لولا اسم عائلتي الذي ألقى بظلاله على دربكِ هل كنتِ ستعيشين؟ ولولا ظافر… هل كنتِ لتصعدي خشبة المسرح تحت أضواء الشهرة كنجمةٍ يدّعي الجميع أنهم اكتشفوها؟”

مالت إليها سيرين كما يدنو الموت بهدوء ممن انقطعت صفحة حياته ثم انحنت عند أذنها وهمست كأنها تُسقِط سمّ في العروق:

“هل ظننتِ حقًا أنني غافلة؟ أنني لم أكن أرى ما وراء ستائركِ المخملية؟ كل تلك الأفعال المشبوهة التي لطخت سنواتكِ في الخارج بعد التخرج… أحقًا اعتقدتِ أنني لم أكن أعلم؟ قولي لي إن عرف ظافر… وإن علمت عائلته… هل سيتقبلونكِ كما أنتِ؟ أم سيتبرأون منكِ كما يتبرأ الليل من الخطيئة؟”

كانت سيرين قد حبكت عودتها كأنها تكتب رواية انتقام صفحةً تلو الأخرى، فهي لم تترك خيطًا دون أن تمسك به ولم تترك أثرًا دون أن تتبعه حتى دينا قد بحثت عنها وحفرت في ماضيها كمن يُنقّب عن أسرار مقبرة فرعونية ووجدت ما لم تتوقعه:

الإلهة الطاهرة دينا التي يتغنون باسمها لم تكن سوى قناع هشّ يُخفي سنواتٍ من الزيف واللهو المُحـ ـرّم.

اتسعت عينا دينا وارتجف الجليد في قلبها؛ إذ ظنت أنها قد محت كل آثارها وأخفت كل دليل لكنها لم تدرك أن الماضي لا يموت… بل ينام في الظل وينهض حين يُنادى باسمه.

قالت دينا بشفاه مرتجفة:

“إذن…أنتِ لم تفقدي ذاكرتكِ حقًا…”

ثم أضافت بلهجة تتأرجح بين الغضب والذعر:



“صدقي أو لا تصدقي… فسوف أخبر ظافر…!”

ابتسمت سيرين بسخرية لاذعة كأنها تطـ.ـعن دون د م، وقالت بحاجب مرفوع تعلن تمردها السافر:



“أوه، حقًا؟ أتحداكِ!! فقط افعلي وستجدين فيديوهاتكِ الصغيرة الجميلة… على شاشة في بيت ظافر غدًا صباحًا.”

صمتٌ ثقيل خنق أنفاس دينا، بينما الكلمات قد تجمدت بين شفتيها وكأن لسانها قد خانها، فهي أبداً لم تتوقع أن سيرين التي عادت بعد الغياب تقف في وجهها بهذه الحدة، بهذه القسوة النارية التي تحرق كل شيء.

قالت دينا بصوت مبحوح يلهث وسط الرجاء:

“سيرين تهامي… قولي لي ماذا أفعل لتتركي لي ظافر؟ سـ.. سيرين أنا لم أؤذكِ يومًا، لم أخطئ في حقكِ خارج حدود هذا الحب، أتوسل إليكِ أطلقي سراحه… دعينا نرحل!”

لكن سيرين لم تعد تنظر إليها بل استدارت وقد أغلقت على قلبها أبواب الرحمة وقالت دون أن تلتفت:

“ولكن… متى سمحتِ لي أنتِ بالبقاء في قلبه كي أترك لكِ حقي به؟”

لفظت سيرين جملتها ثم رحلت، تاركة دينا وحدها والهواء يزداد برودة حولها.

مضت دقائق طوال قبل أن تجفّ دموع دينا كما تجف آخر قطرات المطر فوق قبر قديم ولكنها خلفت وراءها إحساس أكثر قسوة، فهي لم تشعر بشيء سوى الخوف… خوف أشبه بجنٍّ يعشش في صدرها، وكان كل ما يشغلها فكرة واحدة تطرق جدران عقلها بلا توقف:

“لو أخبرته… لو عرف ظافر الحقيقة… فسأُدفن حيّة.”

شهقت دينا تكتم في جوفها صراخ كمن يختنق في بئر مظلم، تتمتم بأعين تفيض بالكراهية:

“لا! مستحيل! أنتِ من دفعتني لهذا سيرين… أنتِ السبب!”

وصمتت… لكنها داخليًا كانت تنفجر، وتقاذفتها الذكريات.

فلاش باك في باريس

في ليلة غارقة في الضباب كانت أضواء الشوارع تهتز كأنها تترنح من سُكرٍ قديم بدت باريس كأنها لا تعرف النوم، طرقاتها تشهق بالرغبة وتزفر بالأسرار.

تحديداً على رصيف شارع “مونمارتر” مشت دينا بخطواتٍ مترددة كأن الأرض نفسها تشكّ في نواياها.

في تلك الليلة كانت ترتدي فستانًا أسود ضيقًا بما يكفي ليبرز مفاتنها وطويلاً بما يكفي ليُغري الهواة.

شعرها مرفوع بعشوائية محسوبة وعطرها يسبقها بخطوات… عطر لا يُباع في المتاجر بل يُقطّر من قصصٍ وقـ.ـحة ونوايا خبيثة كصاحبته.

قادتها قدميها إلى نادي تحت الأرض لا توجد له لافتة فقط باب معدني ثقيل وحارس بعينٍ واحدة ووشم ثعبان يلتف حول عنقه.

رمقها الحارس بنظرة مختلطة بين المعرفة والشفقة ثم أفسح لها الطريق دون أن ينطق.

الضوء في الداخل كان أحمر داكنًا كدمٍ لم يُغسل بعد.

الموسيقى كانت أشبه بصرخات مكتومة والإيقاع يضرب في القلب كنبضٍ مريض.

وجوه كثيرة هناك، بعضها مألوف من نشرات الأخبار وبعضها لا يُفترض بها أن تكون حية أصلًا.

جلست دينا على طاولة في الزاوية والتقطت كأسًا من يد رجل لم يطلب شيئًا سوى ابتسامة.

ذلك الرجل… لم يكن غريبًا، إنه رجل أعمال عربي تتصدر صوره المجلات وتُطبع تصريحاته على أوراق السياسة والمال، لكنها كانت تعرف وجهه الحقيقي الوجه الذي لا يظهر على أغلفة الصحف أو المواقع الخاصة بالمشاهير.

قال الرجل بصوتٍ أشبه بهسهسة الثعابين:

“أتعلمين ما الفرق بين النجمة والشرارة؟ الأولى تُحترم… والثانية تُستَعمل ثم تُنسى.”

أجابته بنظرة جامدة وارتشفت من كأسه الذي صار بحوزتها الآن رشفة طويلة وهي تعلم تمام العلم ثمن الجلسة، وتعي أيضًا أن الطريق إلى القمة ليس مفروشًا بالورود بل بالأسرار التي تُباع وتُشترى تحت الطاولات.

وبين رشفةٍ وضحكةٍ مصطنعة صعدت درجات وهمية من المجد الزائف تاركة خلفها جزءًا من نفسها على كل عتبة.

ذلك الليل لم ينتهِ هناك… بل امتد كظلٍ طويل يلاحقها حتى في صحوها، وكل مرة تنظر إلى المرآة ترى انعكاسها مشوشًا كأن الزجاج نفسه يخجل من صورتها.

كانت تظن أن باريس ستنساها… لكنها لم تدرك أن المدن لا تنسى من باعوها أرواحهم.

كانت الساعة تقترب من الرابعة فجرًا حين انسلت دينا من باب النادي الخلفي كأنها تخرج من رحم الخطيئة.

الهواء كان مشبعًا برائحة الرطوبة والسُكر والتواطؤ ووعودًا بفرصٍ أكبر في عالم التمثيل وعلبة سوداء صغيرة في حقيبتها تحتوي على أكثر مما تحتمل ذاكرتها.

“شقة 47، الطابق الثالث لا تطرقي… الباب سيكون مفتوحًا” هكذا قال الرجل، قبل أن يختفي كما يظهر الشيطان في القصص القديمة ويتلاشى مع الغيوم بعد أن ينال من ابن آدم.

وصلت… دلفت إلى الداخل كمن يُساق إلى مصيره لا قوة ترد ولا منطق يعترض، كانت الغرفة خافتة مضاءة بمصباحٍ واحد يتدلّى من السقف، يتأرجح ببطء كبندول ساعة يراقب خطايا الزمن، وعلى الطاولة وُضعت كاميرا ليست صغيرة… بل احترافية مستعدة لتسجيل “مشهد العمر”.

جلست فظهر الرجل برفقة اثنين أحدهما يحمل ملفًا والآخر يحمل عقدًا وضعه أمامها وأخذ يتجـ.ـرد من ملابسه بلهفة مقززة، وذلك الثري يقول بحماس:

“ما سنصوره الليلة لن يُعرض إلا إذا احتجنا إليه… فقط لضمان الوفاء بالاتفاق.”

قالها دون أن يرمش.

خرج صوت دينا متحشرجًا:

“لقد قلتَ إنها جلسة تجربة أداء.”

قهقه الرجل ولكن ضحكته لم تكن سوى جملة تهديد بلا كلمات.

أشار إلى العقد. “ستأخذين دور البطولة، فيلم من إنتاج خاص، تمويل عربي-فرنسي مشترك وإعلانه الرسمي سيصدر تقريبًا، لكن قبل ذلك… نحتاج أن نعرف إن كنتِ على استعدادٍ لتقديم كل شيء.”

كل شيء…

هكذا كانوا يسمونه:

“كل شيء.”

وقعّت بيدٍ ترتجف، وداخلها صوتٌ صغير يصرخ… لكن لا أحد كان يسمعه.

في تلك الليلة… لم تمثل دينا.

في تلك الليلة بُصم عليها كوثيقة وبعدها خرجت من الشقة بفستانها المجعد، وبكعبٍ مكسور، وبروحٍ أقل وزنًا مما دخلت.

كانت باريس لا تزال مستيقظة لكنها لم ترَ فيها سحرًا.

في تلك الليلة لم تنم.

وفي صباح اليوم التالي وصلتها الحقيبة… بداخلها الأموال والعقد ونسخة من التسجيل.

وورقة بيضاء كُتب عليها بخط رفيع:

“لا أحد يرتقي دون أن يُجرّح فحافظي على ابتسامتك أمام الكاميرا.”

في صباحٍ متخمٍ بالغيوم، وبينما كانت أشعة الشمس تتسلل بخجلٍ عبر ستائر نافذة سيرين باغت رنين الهاتف سكون الغرفة فامتدت يدها نحو الجهاز وضغطت على زر الرد فانبثق صوت كوثر كطلقةٍ في قلب الصمت:

– “سيرين، هل بعتِ أغنيتكِ لدينا؟!”

شهقت سيرين كمن أفاق من حلمٍ غامض ثم ردّت بصوتٍ ينضح بالحيرة:

– “كلا… لقد تلقيت بالفعل عرضًا من وكالة *Carnival Central Media* تلك التي كانت دينا تعمل تحت إمارتها – لشراء حقوق الأغنية لكنني رفضت إذ شعرت بشيء مريب آنذاك.”

ساد صمت خاطف أعقبه انفجار من الغضب في نبرة كوثر:

– “هل رأيتِ الفيديو الترويجي لأغنية دينا الجديدة؟ اسمها *شظية من نور*… اللحن يا سيرين، اللحن مسروق منكِ وبكل وقاحة!”

تشنجت ملامح سيرين وكأن خيطًا من الكهرباء اخترق أوتار قلبها، فقفزت نحو حاسوبها وبدأت تبحث بجنون.

هناك، على الشاشة، كانت الأغنية أمامها كجثة مدفونة في ثوب من الأضواء، نقرت زر التشغيل بعد أن ثبتت السماعات بأذنيها وتركَت الموجات الموسيقية تتسلل إلى أعماقها.

بالأمس حين سمعتها للمرة الأولى خُيِّل لها أن في اللحن صدىً مألوف لم تعره اهتمامًا، أما الآن فقد استيقظت ذاكرتها مثل وحشٍ من سباته وجذبها اللحن نحو زمنٍ قديم حيث كتبت تلك الأنغام في لحظة نزقٍ شعري ورفعتها يومًا ما على منصة رقمية ثم نسيَتها كحلمٍ غير مكتمل.

قهقهت كوثر بسخرية قاتمة:

– “كنتِ قد أسميتِها *شعاع من نور*، أليس كذلك؟! يا للصفاقة… فهي لم تكلف نفسها حتى عناء تبديل الاسم بالكامل!”

أجابت سيرين ودماء الغضب تصبغ خديها:

– “نعم، أتذكر الآن… لقد رفعتها هناك ثم شُغلت بالحياة ونسيتها.”

قالت كوثر وهي تتنقّل بين الصفحات كصيّادة تترصّد فريستها:

– “تخيلي يا سيرين… هذه العاهرة سرقت الأغنية لأنكِ رفضتِ بيعها؟! هل تصدقين هذا؟! لقد علمتُ من مصادر موثوقة أن بعض أغانيها كانت مُشراة لكنّ أغلبها مسروق! لا غرابة أن تطال يدها أغنيتكِ أيضًا.”

سكتت سيرين للحظات ثم تمتمت بصوتٍ ممزوجٍ بالقهر:

– “أعلم… لكني لم أتخيل قط أنها ستتجرأ على سرقة روحي بهذا الشكل.”

أضافت كوثر وقد ارتسمت على وجهها ملامح الاشمئزاز:

– “لطالما كانت معجبة بمؤلفات أحدهم من المشاهير… لكنها لم تجرؤ على الوصول إليه فاستعانت بمن ينبش في الأرشيف الرقمي كمن يبحث عن كنزٍ مسروق… وعدّلت الأغنية لتناسب ذوقها المسموم.”

صمت ثقيل خيّم على المكالمة للحظة قبل أن تنفجر كوثر مجددًا:

– “المضحك… أنها حققت رواجًا واسعًا هل تصدقين؟ الناس يرقصون على لحنكِ المسروق، سأطلب من أحد المحامين لدينا أن يرسل إشعار قانوني لها فورًا!”

لكنّ صوت سيرين قاطعها كنسمة تهدئ نيران الحريق:

– “مهلًا… لا يمكننا ملاحقتها قانونيًا بهذه السرعة، نحتاج إلى خطة… إلى أدلة قاطعة، إن أردنا الانتقام فلنصنع من الحقيقة قنبلة لا تُخطئ الهدف.”

سكنت نبرة كوثر فجأة كأن الكلمات ارتطمت بجدارٍ من الغموض ثم سألتها بتوترٍ متوجّس:

– “ماذا تقصدين؟ أية خطة يا سيرين؟”

أغمضت سيرين عينيها للحظة كأنها تستحضر طيفًا غائرًا من الماضي وحين فتحتها كانت نظراتها قد تحولت… لم تعد تلك الفتاة التي تخشى الظلال بل امرأة قررت أن تطاردها.

– “لن أواجهها الآن… لن أمنحها متعة الدفاع… سأجعلها تنهار تحت وطأة ما ظنّت أنه مجدها.”

ثم تابعت وهمساتها كوشوشة أفعى ولدها الانتقام تُحيك خيوطها:

– “أولاً… سأجمع كل الأدلة… تاريخ نشر الأغنية الأصلية على المنصة، المسودّات المحفوظة على حاسوبي، الملفات الصوتية، حتى الشيفرة الزمنية للملف الموسيقى، سأجعل كل تفصيلة شاهدة على الجريمة.”

تنهدت كوثر وعيناها تلمعان بإعجابٍ خفي:

– “ثم؟”

أجابتها سيرين بثبات:

– “ثم… سأعيد تسجيل الأغنية بصوتي كما خُلقت أول مرة خامةً نقية من روحي وأطلقها على قناتي الرسمية، سأفضح السرقة دون أن أذكر اسمها، سأجعل الناس هم من يكتشفون الفضيحة… بأذانهم، بحدسهم.”

ارتسمت على شفتيها ابتسامة من تلك التي تسبق العواصف وقالت بنبرة تنطق بثقةٍ لا تعرف الرجوع:

– “وهي؟ ستبدأ بالتخبط، ستنكر، ستكذب… لكن الأدلة ستنقضّ عليها ككلاب الصيد وسأدع القانون يُكمل الرقص الأخير.”

كوثر وقد انعكست في عينيها نار الحماسة، قالت:

– “وأنا؟ ما دوري في هذه المعركة؟”

أجابت سيرين وقد تلوّن صوتها بمكرٍ شهي:

– “أريدكِ أن تنشري الأغنية الجديدة في كل مكان… لكن باسم مستعار وتتركي للجمهور مهمة الربط، غكلما ازداد اللغط كلما ارتفعت ضحكاتنا خلف الستار.”

صمتت كوثر للحظة ثم قهقهت بانبهار:

– “تعجبني لعبتكِ، يا سيرين… أخيرًا سنرقص على أنغامكِ الحقيقية لا على صدى مزوّر.”

أغلقت سيرين الهاتف وجلست أمام البيانو القديم في ركن الغرفة، ووضعت أصابعها فوق المفاتيح البيضاء والسوداء وأطلقت اللحن كما ولد أول مرة… نقيًّا، صادقًا، يشبهها.

لكنها لم تكن تعرف أن دينا… كانت قد شعرت بالخطر.

وأن الحرب بدأت تُقرع طبولها من خلف الكواليس…








اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top