رواية عشق لا يضاهى الفصل 81 بقلم اسماء حميدة

عشق لا يضاهى

الفصل 81

ثرثرة؟ 
يا لسخرية الأقدار… 
كم من امرأةٍ في هذه المدينة كانت تحلم أن تُصبح وشوشة تُردَّد خلف الأبواب المغلقة لمجرد أنّها لامست ظلّه! كأن اسم “ظافر نصران” كان تعويذةً تفتح قلوب النساء وتُذيب حياءهن كما يذيب الصيف شموع المساء. 

جميعهن يتمنين أن تُنسَج عنهن أسطورة، أن تُهمس حكاياتهن على ناصية المقهى، ويُرمى اسمهن في منتصف الليل كقصيدة حب مشروخة لا يعرف أحدٌ نهايتها ومرجاهن “ظافر نصران”.

أما هو فبرغم قلبه الذي يهفو إليها لم يستطع ابقاءها بالقوة والآن يلعن حاله وهو جالسٌ على المقعد الخلفي لسيارته، رأسه مسنودٌ إلى الزجاج البارد وعيناه زائغتان كأنهما تسبحان في بحيرة راكدة من الذكريات يسب بكل لفظ قميء وصراع يدور بداخله… شخص يؤيده على ما فعل بتركه العنان لها تفعل ما تريد وكبرياءه يحول دون إجبارها فبالأخير ستعود، وشخص آخر ينعته بالأحمق كون حبيبته كانت بين يديه ولم يحرك ساكناً لمنعها من المغادرة.

تسللت إلى ذهنه صورة كارم ذلك الوجه الباهت الذي لطالما حاول تجاهله لكنه يعود في كل مرة كطيفٍ ثقيلٍ لا يعرف الرحيل. 

أربع سنوات؟ خمس؟ كم مضى على اختفاء سيرين؟ زمنٌ كفيل بأن تترسّب فيه المشاعر وتتحوّل الصداقة بينهما إلى رغبة خامدة تنتظر قبسة نار.

كيف كانت أيامها معه؟ 

هل ضحكت له كما كانت تضحك لظافر في خجل؟ 

هل خبّأت رأسها في صدره كما اعتادت أن تفعل حين كانت الدنيا تضيق؟ 

شيطانه يهمس له وهو يخرج لسانه إليه يتلاعب به يؤكد ظنونه بأن تلك الطفولة التي جمعت كارم وسيرين كحبلٍ سُريّ لا يُرى لكنها لا تزال تشدّ أرواحهم إلى ذات البدايات… حيث لا قوانين، ولا عقود، بل قلبان بريئان يتعلمان الحياة سويًّا.

كل خلية في جسده الآن تصرخ لكن بصمتٍ مميت… لم يكن يشعر بالغيرة فقط، بل بتهديدٍ يمزق كبرياءه شيئًا فشيئًا.

الغيرة؟ 
لا… لم تكن غيرةً فقط بل كانت أشبه بسمٍّ يتسرّب إلى شرايينه قطرةً قطرة… 

شعورٌ لزجٌ كالحقد لكنّه أرقى… وأقسى،
تلك الغصة التي كانت تخنقه لم تولد اليوم بل كانت نائمة في صدره تنتظر لحظة كهذه لتستيقظ كوحشٍ قديم خرج من سباته.

منذ أن غابت ومنذ أن اختارت أن تختفي من دفء ذراعيه، بدأ شيءٌ ما يتآكل داخله كأنّ قلبه صار موطنًا كنقّارٍ لا يهدأ. 

لم يصدق يوماً أنها ماتت كما أدعت بل ظن في بادئ الأمر أنها كبوة مؤقتة… حاجة إلى الهرب… مجرّد مسافة فتركها كي تشتاق، لكن حين عاد اسم “كارم” يتردّد أمامه… وحين لمح تلك النظرة في عينيها… النظرة التي كانت له وحده… 

حين رأى كيف تنكسر ضحكتها حين يمر اسمه في الحديث… 

أدرك أنّ شيئًا تغيّر… تغيّر في نظرتها له، تغيّر في رائحتها، تغيّر حتى في وجعها.

أراد أن يصرخ. 

أن يهزّها من كتفيها ويقول لها: 

*أنا الذي صنعتكِ من شتاتكِ! أنا الذي منحتكِ اسمًا حين كنتِ محض ظلّ!*

لكنّه لم يفعل. 

اكتفى بالصمت… صمت قاتل كالموت الرحيم لكنه كان يعلم أن لا رحمة فيه.

لقد أحبها كما لا يليق برجلٍ أن يحب، أجل لم يكن متفهم لما كان يشعر به تجاهها، أحبّها بعقله، بقسوته، بسلطته، حتى بجنونه لكنه لم يكن يومًا يعرف كيف يُظهِر ذلك… 

كان يظن أن الحماية صورة من صور الحب، أن السيطرة امتداد للرغبة، أن الغيرة برهان على التملك.

الآن وهو جالس في ظلال الذكرى، يرى مشهدًا لم يتخيله حتى في كوابيسه… 
سيرين تضحك بجوار كارم. 

كارم يمدّ يده ليلامس وجه الطفل، والطفل… يشبهه!

كأن خياله صار شاشة عرضٍ يعذّب بها نفسه عن سبق إصرار وترصّد.

همس لنفسه: 

“لو كانت له… فلن أسامح نفسي أبدًا… ولن أسامحها.”

ثم شدّ قبضته على المقود كأنّه يخنق المدينة بأكملها، وهو يشعر أن الهواء من حوله صار خائنًا، وأن المطر فوق زجاج السيارة يتواطأ معها… حتى الزمن بدا وكأنه يسير إلى الوراء إلى حيث بدأت الحكاية… وإلى حيث لا يعرف أحدٌ كيف تنتهي.

أحس وكأن كلماتها صفعة صامتة لكنها نفذت إلى عمقه كرمح مغروس. 

ما الذي تعنيه بقولها إنه يتدخل وأنها ستصبح حديث الناس؟  هو الذي بنى لها مملكة من الغضب والحماية والغيرة… 

هو من أحاطها بأسوار من نار كي لا تقترب منها شائعة ولا عاشق ولا ذكرى!

راقب خطواتها وهي تتضاءل في الأفق، كأنها تبتعد عن قلبه وليس عن جسده فقط. 

ذاك الشعور الذي خنقه فجأة، تحول من الغيرة إلى الفزع، فزع من فكرة أنها قد لا تعود أبدًا.

أخرج هاتفه بارتباك واتصل بماهر: 

“افعل ما يلزم… أريد هذا الطفل بأي ثمن.” 

أجاب ماهر بخنوع:

“حاضر.” 

تبلورت خاطرة خبيثة برأس ظافر فأردف بأعين متقدة بالغل:

“استمر في الضغط على كارم… لا أريد لأي من مشاريعه أن يرى النور.”

أغلق ظافر الهاتف ببطىء كأنّه يختم على قرار مصيري وبقي لحظات يتأمل دخان سجائره وهو يصعد كأرواح التائهين. 

ترسخت في نفسه صورتها وهي تهرب… تهرب منه، من ظله، من صوته، من كل ما يربطها به. 

أين تلك التي وعدت أنها ستحبه إلى الأبد؟ 

كيف يتبدّل الحب بهذه السرعة؟ 

هل وقعت في هوى كارم؟ 
لا يهم… حتى لو خمدت الرغبة في قلبه فلن يسمح لأحد أن يستولي عليها.

أخذت السيجارة تشتعل وتذوب بين أصابعه ومن ثم أخرج صورة الطفل،  
يتأمل الملامح… تلك العيون… ذلك الشبه المريب!

إن كان طفله حقًا فما سر إخفائه؟ 
لماذا تُبعِده عنه؟ 

حين يسترده، عليه أن يتحقق… عليه أن يُجبرها على البقاء ولو برباط الحديد لا الزواج. 

هذه المرة لن يدعها تفلت من بين يديه كالرمل. 

ستظل بين عينيه كل يوم… إلى أن تنسى كيف كانت الحياة بدونه.

ما إن أسدل الليل ستائره الثقيلة حتى سكنت المدينة وغرقت النوافذ في صمتٍ مترفٍ بالانتظار.

وقفت سيرين على شرفة المنزل، تتأمل الظلال التي نسجها القمر على الجدران ثم نادت بصوتٍ ناعمٍ يشبه نسمة ليلٍ خجولة: 

“كوثر…”

وما إن سمعت كوثر بأن ظافر قد غادر الشركة برفقة سيرين ذلك اليوم حتى ارتجف قلبها كما لو أن صاعقة داهمته فجأة. 

“ظافر؟! هل… هل بدأ يفتح صفحة جديدة؟”

هزّت سيرين رأسها وعيناها تائهتان في اللا شيء كأنما تبحثان عن إجابة بين نجوم الليل: 

“لا أعلم ما الذي حلّ به… كان شاردًا، مرتبكًا، كأن في صدره سرًّا يُثقله ولا يجد لبوحه لسانًا، وفجأة تحول وأراد أن يبقيني معه في القصر بالقوة.”

قالت كوثر بنبرة جمعت بين الدهشة والقلق: 

“كانت فرصة ثمينة… لماذا رفضتها؟ فأنت تسعين إلى ذلك منذ عودتِ”

أجابت سيرين، ووجهها يتلون بتجاعيد الحنين والألم: 

“كلما اقتربتُ منه تهاجمني أطياف الماضي كأشباحٍ لا تهدأ، لستُ في مزاجٍ يليق بالإغواء… بل مزاجي مشبع بالخوف.”

ثم تنهدت وأردفت: 

“وحتى إن عشتُ معه… فماذا عن زاك؟”

صمتت كوثر لبرهة ثم نطقت كما لو أن الحقيقة سقطت من بين شفتيها دون إرادة: 

“معك حق… وحدكِ، هو الخيار الأنجى.”

“نعم… وحدي.” تمتمت سيرين ثم سألت وهي تخفي ارتجاف قلبها خلف نبرةٍ هادئة: 

“وكيف حال زاك؟”

عند ذكر زكريا تلوّن الحوار بدفءٍ مفاجئ كما لو أن ذكراه كانت ملاذًا هادئًا في عالمٍ متقلب. 

قالت كوثر مبتسمة: 

“ابن أخي دارين يقول إنه قائد الأطفال حتى أن الطفل الذي كان زعيمهم سابقًا قد أصبح الآن تابعًا له بل ومعجبًا به.”

لم تسأل كوثر عن القائد السابق لذا لم تعلم أن ذلك الطفل لم يكن سوى مالك الحفيد الأكبر لعائلة نصران وريث الدم الأزرق والسلطة الصامتة. 

قالت سيرين وقلقها يتسلل عبر نبرة أمرٍ ناعم: 

“أخبري زاك… ألا يلفت الأنظار إليه، أبقيه في الظل.”

سيرين كانت تعلم أن الضوء لا يليق بزكريا فموهبته اللافتة أشبه بنارٍ في الهشيم، تلفت الانتباه وتفتح الأبواب التي لا ينبغي أن تُفتح. 

لطالما كان مميزًا… أكثر من اللازم.

الدم… يا لهذا الشيء الغريب إذ كان زكريا ونوح في هيئتهما انعكاسين صغيرين لظافر كأنما خرجا من ملامحه، 
ولو علم بوجودهما لتحولت الأرض إلى فوهة لا تُبقي ولا تذر… 

اجتاحت سيرين نوبة ذعر لمجرد التفكير في القادم وحالما أغلقت الهاتف بعد أن أوصت كوثر بما ينبغي غادرت الغرفة إلى الحديقة. 

نسمةٌ حارة داعبت وجهها لكنها لم تشعر بشيء… كأن الحمى ما زالت تسرق منها الإحساس ورغم أنها شفيت تقريبًا إلا أن الوهن ما زال يسكن عظامها كضيفٍ ثقيل، وفي ذلك المساء آثرت النوم على الطعام فذهبت لتستريح وجسدها نصف نائم… وروحها نصف مستيقظة.

في الصباح وفي مكانٍ آخر حيث تصطف الأحلام في طابور الطفولة، في روضة أطفالٍ مرموقة… 

كان هناك مشهدٌ جديد يتشكّل بهدوء دون أن يدري أحد أن الظلال بدأت تتحرك.

ترى ما يخبئ زكريا ذاك المشاكس الصغير في جعبته؟

رواية عشق لا يضاهى مكتملة إلى الفصل الأخير بقلم أسماء حميدة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top