الفصل 82
“شبح من الماضي”**
انتهى اليوم الدراسي لتوّه تاركًا وراءه فوضى الأحذية الصغيرة وأصوات الضحك المتلاشية في الممرات بينما وقف زكريا وحيدًا عند البوابة الحديدية يرقب الفراغ كمن ينتظر شيئًا لا يأتي إذ تأخر السائق الذي يقله إلى بيت كوثر كل يوم وهذا التأخير مهما بدا بسيطًا كان كافيًا ليشعل في قلب زكريا شرارة من ضيق لم يُطفأ.
وقف مالك بجواره، يملأ الصمت بكلمات مشاكسة، يقول بخبث طفولي:
“هل سائقك هو من يتكفّل بإيصالك دائمًا؟”
أجابه زكريا وقد غلف صوته بغلالة من الاستياء المكبوت:
“وما البديل؟ أأركب الريح؟”
ضحك مالك ضحكةً تحمل شيئًا من الزهو، وقال بنبرة من يفاخر بعرقه النبيل:
“كبار عائلتي يتناوبون على إيصالي كل يوم… يقول جدي الأكبر إنه يريدني أن أشعر بدفء العائلة وأن تظل جذوري ممسكة بيدي.”
خفض مالك صوته فجأة وكأنما سيفشي سرًا من أسرار الدولة:
“تدري من سيأخذني اليوم؟”
زكريا لم يكن مهتمًا، ولكن الصمت كان سيثقل صدره فسأل ليس أكثر من سؤال عابر.
“من؟” نطقها بتكاسل كما لو أن الكلمة خرجت من بين أسنانه.
ابتسم مالك وقد ارتسمت على وجهه علامات النصر الوهمي:
“جدتي شادية!”
زكريا لم يفهم سبب البهجة الطفولية التي انفجرت في ملامح مالك… ألم يكن يعلم أن شادية ليست جدته الحقيقية؟ فقد لاحظ زكريا أن كل شيء فيها كان مصطنعًا حتى اهتمامها.
وبينما تتقافز الأسئلة في رأسه، توقفت سيارة سوداء أمامهما، سيارة ليموزين رئاسية، تلمع كبريق الخداع في ليلةٍ مظلمة نزلت منها شادية وقد غلفتها هالة من الجمال المصقول بفستان يلتصق بجسدها كأنه صُنع خصيصًا لينطق بأنوثتها وكعبٍ عالٍ يطرق الأرض كما يطرق السيف دروع الغافلين.
كانت شادية رغم سنها لا تزال امرأةً لا تعترف للزمن بهزيمة… كل خطوة منها كانت تصرخ بـ **”سحرٌ لا يُقاوم.”**
“جدتي شادية!” هتف مالك راكضًا إليها بساقيه الصغيرتين، كمن يهرول نحو وطن مؤقت.
تحدث معها بصوتٍ مغمور بالشوق لكن شادية… لم تلتفت كأنّه لم يكن.
فلو لم يطلب كبير عائلة نصران بنفسه أن تتولى أمر مالك لَما كلفت شادية خاطرها لتأتي فـ حفيد شخص آخر؟ لا يستحق منها لحظة اهتمام.
رسمت شادية على وجهها ابتسامةً لا تصل إلى عينيها وقالت وكأنما تتحدث من خلف قناع:
“هيا بنا.”
ثم استدارت بعينيها نحو زكريا ونظرته تلك كانت كشعاع متوهج … رفيع، مباشر، خاطف.
“زاك…” نطقت اسمه وكأنها تهمس لنفسها إذ استيقظ في أعماقها شبحٌ قديم… الطفل الذي يشبه **ظافر**، كأنّ الزمن دار وها هو أمامها الآن نسخةٌ صغيرة من ماضٍ لم يُنسَ.
كانت شادية قد أرسلت من يتقصّى عن زكريا واكتشفت أنّه عاد مؤخرًا من الخارج ويعيش في كنف كوثر، تلك السيدة ذات السلالة اللامعة ووريثة اسم لا يُقال إلا بحذر.
لكن من هو والده؟ ظل السؤال عالقًا في صدرها كشوكة.
رفع زكريا عينيه إليها وقد نطقت ملامحه بانكسارٍ خفي.
“مرحبًا سيدة نصران…” قالها زكريا بصوتٍ خافت فيه من الاحترام بقدر ما فيه من الحذر.
كان اللقاء أشبه باصطدام عالمين… أحدهما قادم من الماضي، والآخر لا يزال يبحث عن ذاته.
كاملة من هنا