الفصل 83
ما إن عاد زكريا إلى منزل كوثر حتى التقط جهازه اللوحي كمن يهرب من ضجيج العالم إلى صومعة المعرفة وراح يغوص مجددًا في محيط الدراسة ولكن…
لكن عينيه لم تخضعا لأوامره وحروف الشاشة بدت له كأنها تتراقص بلا معنى فقد وجد نفسه مضطرًا للغوص في عالم لم يكن عالمه — روضة أطفال.
جلس زكريا يحاول لكنه لم يستطع أن يُقنع روحه بأن تقرأ كتابًا لا يخاطبها.
أما كوثر التي كانت تراقبه بطرف عينها التفتت نحوه بنظرة مشوبة بالدهشة… لم تكن تفهم شيئًا من الرموز التي ملأت شاشة الجهاز وكأنها تعاويذ كتبت بلغةٍ من كوكبٍ آخر
هزت رأسها تحاول استيعاب ما يحدث معه فقد كان ثمة شيء غامض في زكريا، طفلٌ يحمل في عينيه حكمة تفوق سنّه ووراء ابتسامته البريئة إرادة من فولاذ وهذا ما جعل هذا الإحساس يتوغل بقلب كوثر… إحساس بأنها لا تستطيع أن تخذله… بل لا ينبغي لها أن تفعل.
وبعد أن عادت كوثر إلى غرفة مكتبها، جلست بين جدرانه الصامت، وفتحت كتب القانون من جديد تقلب صفحاتها كمن ينقّب عن سلاح قاټل لمواجهة خصم شرس يُدعى دينا.
وبينما كانت منهمكة في مراجعة القوانين والتفاصيل قطع الصمت طرْق خفيف على باب المكتب.
رفعت عينيها على الفور وإذا بزكريا يقف أمامها يلوّح لها بابتسامة صغيرة.
“ما الأمر زكريا؟” سألت بنبرة مفاجأة تتراقص فيها الحيرة والفضول.
أجاب وهو يرفع رأسه بثقة يفتقدها الأطفال:
– “آنسة كوثر لدي ما قد يفيدك.”
وقبل أن تستوعب ما قاله تقدّم منها واستعار حاسوبها المحمول دون استئذان كأن الأمر محسوم.
جلست تراقبه وهو يُطير بأصابعه الصغيرة فوق لوحة المفاتيح بسرعة جعلتها تشك إن كان يتلقى إملاءً من كائن غير مرئي.
دقائق معدودة وانفتحت أمامها صفحة إلكترونية كُتبت فيها سطور من أسرار، وإذا به موقع يحوي معلومات دقيقة وخطېرة عن دينا.
جحظت عينا كوثر وهي تتنقل بين البيانات كمن سقط فجأة على كنز… نقرت بارتباك على واحدة منها فانفتح لها ملفّ يفيض بتفاصيل لم تكن لتحصل عليها إلا مقابل آلاف الجنيهات – وربما ما كان ليُتاح لها أصلًا.
همست وقد شهقت بدهشة ممزوجة بالړعب:
“يا إلهي… الآن فقط أدركتُ لماذا كانت أمك تريدك أن تختبئ.”
رمقها زكريا بنظرة لا تليق إلا بشخص خرج تواً من رواية بوليسية فرد بهدوء:
“آنسة كوثر لا يمكنك أن تتخيلي أن طفلًا صغيرًا قادر على فعل كل هذا… أليس كذلك؟”
ثم أكمل بصوت خاڤت، كمن يُسلم مفتاح السر:
– “السيد كارم هو من أعطاني هذه المعلومات وطلب مني أن أقدمها إليك بمساعدة أمي… حتى لا تستمري في المعاناة وحدك.”
كان زكريا يعلم أن كوثر لم تكن على اتصال بكارم وبالتالي لن تستطيع التحقق من صحة كلامه.
لكن الحقيقة التي لم تُدركها كوثر ولا حتى سيرين، أن زكريا لم يكن شخص لا يستهان به.
كان يحمل في عقله الصغير مشروع عبقرية مخيفة ولو علمت سيرين بذلك لاهتزّ عالمها وربما خاڤت منه وعليه ولهذا آثر زكريا أن يظل الأمر طيّ الكتمان.
حالما غادر زكريا، كانت كوثر ما تزال جالسة تنظر إلى لوحة المفاتيح كما لو أنها باتت مذبحًا استُدعي عليه وحي عبقري… لقد بدأ كل شيء يتغير لصالح سيرين أخيراً.
ومنذ تلك الليلة بدأت كوثر تغوص بكل كيانها في غابة المعلومات التي جلبها زكريا. كانت تتفحصها كما لو أنها تقرأ القدر وكأنها على موعد مع لحظة انتقامٍ تُعيد بها التوازن إلى ميزان العدل المائل.
وفي خضمّ هذا كله كانت هناك مفاجأة أخرى تُزهر في الهامش ترسخت بعقل كوثر التي لم تكن تعرف طبيعة العلاقة بين سيرين وصديق طفولتها وهي أن: السيد كارم يعامل سيرين بلطف عجيب كأن في قلبه خشية من كسرها.
بعد أن أمسكت كوثر بخيوط اللعبة، رتّبت الأدلة التي تُدين دينا بسرقتها الأدبية ورتبت أفكارها استعدادًا لليوم الحاسم… وقررت في هدوء عاصف أن تُلخص كل المعلومات وتناقش الأمر مع سيرين بعد أيام استعدادًا لرفع الدعوى التي ستُسقط القناع عن وجه دينا أمام الجميع.
في صباح اليوم التالي خرجت سيرين إلى عملها كزهرة مُثقلة بندى الغموض في صمت الفجر تمشي بخطى واثقة تحمل داخلها ما لا يُقال وتُخفي خلف ابتسامتها أسرارًا تنبض تحت جلد الوقت.
عملت كعادتها في شركة آل نصران بين الملفات والاجتماعات والأرقام والنظرات الفضولية من الجميع لكنها كانت شاردة… رأسها يضج بالكثير من الأفكار.
كانت تزور المشروع الخيري بين حين وآخر، المشروع ذاته الذي جمعها مجدداً بظافر وكأنها تفتح بابًا من الماضي لتُلقي نظرة على شظاياه.
ذلك المشهد وهي تعمل بـ كِدٍ لم يكن عاديًا بالنسبة لظافر، بل أربكه كأن زلزالًا صامتًا ضړب أرضه الداخلية.
جلس وحده يتأمل سلوكها على شاشة المراقبة التي جعلها مفتوحة فقط على غرفة مكتبها بنظراتٍ تسكنها العاصفة يتساءل في قرارة نفسه:
*ما الذي يدفعها للعودة؟! ما الغاية من كل هذا؟! هل تتلاعب بي أم تحاول استعادة شيءٍ ما فقدته بيننا؟*
ازداد توتره حدّ الاحتراق وبدأ ېدخن بشراهة لم يعهدها من قبل كأن السېجارة وسيلة لإخراج الرماد المتراكم في قلبه أو لعله كان يُحاول حړق الذكريات المتناثرة بزوايا عقله.
في لحظةٍ مكتظة بالدخان والانفعال دخل ماهر يحمل بعض الوثائق فوجد المكتب مغمورًا في غيمة رمادية كثيفة تخنق الهواء وتُربك العين.
زفر ماهر بحزن وتسلّل إليه القلق كأنّه شبحٌ يعرف طريقه جيدًا فحدّق في ظافر بنظرة قلقة وقال بنبرة حذرة:
“أستاذ ظافر، هذا الكمّ من الټدخين… صحتك لن تحتمل.”
لكن ظافر لم يُجبه فقد استمع إلى وقع خطوات خلفه فوأد جمرة سيجارته في المطفأة كما يُسحق أحدهم صړخة مكتومة، واستدار ببطء وقد تعتمت ملامحه وقال بنبرة تنضح بالحيرة:
“ماهر، ما الذي تعتقد أنها تحاول أن تفعله؟ ما لعبتها هذه المرة؟”
تجمد ماهر في مكانه للحظة وكأن السؤال قد طفق من جوف غابة مظلمة ثم مدّ يده بالوثائق في تردد غير أنه اكتشف أن ظافر قد سحبها منه بالفعل دون أن ينتظر إجابة.
تردّد ماهر، ثم قال بنبرة متوترة:
“سيدي، هل تعتقد أن السيدة تهامي… لم تفقد ذاكرتها حقًا؟ في تحقيقنا الأخير وجدنا تقريرًا طبيًا صدر بعد مغادرتها المستشفى مباشرة، يُشخّص حالتها بضعف شديد في الذاكرة.”
رفع ظافر عينيه عن الورق ونظر إليه ببرود كأن روحه تجمدت تحت طبقات الجليد وقال وهو يُحرّر الوثائق بنظرات زجاجية:
“أي طبيب يملك ذرة عقل يدرك أن فقدان الذاكرة لا يُمكن أن ينتقي وجهًا واحدًا فقط ليمحوه من السجلّ… هذا ليس فقدًا بل اختيار.”
سكت ماهر للحظة ثم همس كمن يرمي بكلمة وسط بحر هائج:
“ربما… ربما هي لا تريد أن تتذكرك.”
كلمات ماهر انزلقت كالسهم إلى قلب ظافر فتوقف عن الحركة وارتفعت عيناه إليه ببرود متماسك يخفي زلزاله الداخلي ثم سأل بصوت أشبه بالهمس الچارح ناكراً نرجسيته معاها:
“ولِمَ قد لا تريد أن تتذكرني؟ ما الذنب الذي يستحق كل هذا النسيان؟”
سكن المكان واختنق الهواء بالدخان والصمت والاحتمالات كأن الماضي نفسه حضر جالسًا في الزاوية يتأمل مصير من ضلّ الطريق وسط الحب والخذلان.
كاملة من هنا