الفصل الثالث
كان صوت سيرين هادئًا، خاليًا من أي مشاعر، وكأن الطلاق لا يعني لها شيئًا سوى مسألة تافهة.
انقبضت حدقة عين ظافر، وتوتر صوته: “ماذا قلتِ للتو؟”
على مدى السنوات الثلاث الماضية، ورغم كل ما فعله، لم تلمح سيرين يومًا إلى الطلاق.
كان ظافر يدرك في أعماقه أن سيرين تحبه بل تعشقه… لكن الآن، كانت عيناها اللتان اعتاد أن يرى بهما لمعة شغفها به أصبحتا تشعان بريقًا وصفاءً وكأنها تعي معنى طلبها تواً إنها ترغب حقاً بالانفصال عنه؟! سؤال ضج به رأسه وزادتها عندما قالت بنبرة حازمة:
“أنا آسفة لأنني كنت عبئًا عليك خلال السنوات القليلة الماضية سيد نصران. حان الوقت لننفصل”.
زم ظافر شفتيه فبدت كخطٍ مشدود وانقض لتستميت قبضته على ذراعها يعتصره يديه دون وعي، يقول بتوتر أعصاب ظاهر عجزت سيرين عن تفسيره :
“لقد سمعتِ ما قلتُه قبل قليل عبر الهاتف، أليس كذلك؟ ألهذا تتفوهين بالحماقات؟! اسمعيني جيداً مجموعة أبيكِ على وشك الإفلاس، ولا يهم من سيشتريها سواء كنت أنا أو أي شخص آخر، انظري بعينيَّ واخبريني ما الذي تحاولين تحقيقه بإثارة قضية الطلاق الآن؟ هل تسعين للحصول على المال؟ أم أنك تريدين الطفل؟ أم تريدين أن أترك مجموعة تهامي؟”
سألها ببرود، مضيفًا بنبرة حادة وأعين زائغة يريد إخفاء شيء ظهر بهما دون سابق إنذار، ولكن ما تفوه به لربما يناقض شعوره الآن:
“لا تنسي أنني لا أحبك. تهديداتك لن تجدي نفعًا معي!”
في تلك اللحظة، بدا ظافر وكأنه شخص غريب عليها، ابتلعت لتزيل كتلة مريرة قد تشكلت بحلقها، وبدأت أذناها تنبضان بقوة وبالرغم من أنها كانت ترتدي سماعات الأذن ولكنها بالكاد استطاعت سماع كلماته المتناثرة، لم تسعفها الكلمات لتتمكن من التعبير عن مدى الخذلان الذي تسلل إلى قلبها عقب معاملته القاسية لها، ولم تتمكن من الرد سوى على سؤاله الأخير، فأردت تقول بإيجاز:
“لا أريد شيئاً.”
وخوفًا من أن يلاحظ شيئًا خاطئًا بها، غادرت سيرين المكتب بسرعة وقلبها يعصف بنوب قهر لم تشعر بها من قبل، وعندما شاهدها ظافر وهي تبتعد تاركةً إياه خلفها دون أن تلتفت، أخس بإحباط غريب لم يعهده من قبل…
أخذ ظافر يدور حول نفسه متخصراً يزفر أنفاسه بتتابع كتنين ثائر غير قادر على كبت مشاعره، فانفجر غاضبًا، ليركل الطاولة بقدمه فانقلبت رأسًا على عقب، لينسكب وعاء الحساء الذي أحضرته سيرين على الأرض.
عادت سيرين إلى غرفتها، وأجبرت نفسها على ابتلاع حفنة من الحبوب، ثم مدت يدها لتلمس أذنها، وعندما سحبت أصابعها، رأت دمًا قرمزيًا عليها كأثر جانبي للدواء الذي تناولته تواً.
ومن ثم انسحبت تندس بسريرها متكومة على حالها متخذةً وضع الجنين تكتم شهقاتها بكلا راحتيها وهي تنعي قلباً مكلوماً عشق جاحداً لا يلين.
تعافى سمعها قليلاً بحلول الفجر، رمشت بأهدابها الكثيفة التي تزين عينين خضراوين زاهيتين مكحلتين بسواد رباني يخر له الناسك ساجداً ما عدا من ملك قلبها فهو لا يرى بها وجمالاً أو هكذا ظنت.
حدقت في أشعة الشمس الناعمة المتدفقة من النافذة بلا تعبير… تتمتم لنفسها بهدوء:
“لقد توقف المطر”
في ذلك اليوم، لم يغادر ظافر القصر… بل ظل جالساً في غرفة المعيشة على الأريكة ينتظر اعتذار سيرين وتعبيرها عن أسفها… لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تفقد فيها سيرين أعصابها معه… ومع ذلك بعد كل نوبة غضب، كانت تعتذر له بعد فترة وجيزة… فأعتقد ظافر أن الأمر سيكون نفسه هذه المرة.
بعد قليل، رأى سيرين تخرج من غرفتها وقد انتعشت تمامًا وكأن شيء لم يكن… كانت ترتدي ملابسها الداكنة المعتادة وتحمل حقيبة سفر بيدها، بينما تمسك بيدها الأخرى ورقة.
أعطته الورقة التي كانت عبارة عن اتفاقية طلاق تتنازل بها عن كافة حقوقها الشرعية بما في ذلك مؤخر صداقها المبالغ به، تقول ببرود مصطنع:
“اعلمني عندما يكون لديك الوقت، ظافر.”
بعدما غادرت القصر، سحبت حقيبتها خلفها، متوجهة نحو بداية جديدة في حياتها.
كان الجو في الخارج مشرقًا ومشمسًا بعد ليلة مطيرة غائمة، وكأن الطبيعة نفسها تبارك انطلاقتها نحو الحرية.
شعرت سيرين بأن الحياة منحتها فرصة جديدة، فرصة لكتابة فصل جديد من وجودها بعيدًا عن الظلال القاتمة التي كانت تحاصرها.
في هذه الأثناء، كان ظافر جالسًا كالصنم على الأريكة، يمسك باتفاقية الطلاق في يده، وكأنها وثيقة تثقل كاهله بماضٍ لا يرحم ومستقبل خاوٍ بدونها… شعور بارد تسلل إلى أوردته لبُعدها ولا يجد له تفسيراً.
ظلت صدمة رغبتها بالانفصال عنه تعصف بكيانه، وكأنها رياح عاتية تجرف ما تبقى من استقراره الداخلي…. مضى وقت طويل قبل أن يتمكن من استيعاب ما حدث، ليعود إلى وعيه المثقل بالألم والندم.
كان اليوم يوم السبت، وفي مثل هذا الوقت من العام، كان ظافر يأخذ سيرين إلى مسقط رأسه لتقديم واجب العزاء للأسلاف. كانت تلك الزيارة السنوية دائمًا تفرض عليهما مواجهة نظرات العائلة المتطفلة، وتحمل الأحاديث الجانبية والنقد المبطن. ولكن اليوم، كان وحده، يغمره شعور غريب لم يستوعبه بعد.
في قصر نصران، استقبلت شادية وبقية أفراد العائلة ظافر بدهشة إذ لم يتوقعوا رؤيته وحيدًا… في السابق، كانت سيرين دائمًا الحاضرة الأولى… والأخيرة التي تغادر، تسعى جاهدة لإرضاء الجميع… ولكن اليوم، غابت، وتركت خلفها فراغًا ملموسًا.
اقتربت شادية من ظافر، وعبست، تسأله بقلق:
“ظافر!! أين سيرين؟”
نظر إليها ظافر بتعبير وجه بارد جاهد في استحضاره، وقال بصوت خافت:
“أرادت الطلاق… وتركتني.”
ساد الصمت المكان، وصُدمت العائلة من وقع كلماته… كانت شادية تعلم أن حب سيرين لظافر يتجاوز كل شيء، ولم ينافسها في حبه سوى والديه ولكنها تفوقت عليهما بمراحل إنها تتنفسه.
قبل سبع سنوات، قامت سيرين بحماية ظافر بجسدها عندما حاول أحدهم طعنه فوقفت أمام مهاجمه كالسد المنيع تتلقى عنه ضربة مميتة نقلت على إثرها إلى إحدى غرف العناية المركزة بعدما خضعت إلى جراحة خطرة استمرت لست ساعات متواصلة حتى أنقذتها العناية الإلهية أو ربما كان ذلك تكليل من المولى لإخلاصها في حبه.
ومنذ أربع سنوات، بعد خطوبتهما بقليل، تعرض ظافر لحادث خلال رحلة عمل في دبي، وكان الجميع يعتقد أنه مات، لكن سيرين رفضت التصديق، وتركت كل شيء وذهبت تبحث عنه في المدينة بأكملها.
بعد زواجهما، اعتنت سيرين بكل تفاصيل حياته، تعاملت بأدب مع كل من حوله، حتى سكرتيراته، خوفًا من أن تتسبب في إحراجهم. كان واضحًا أن سيرين لا تستطيع العيش بدون ظافر. إذن، لماذا اقترحت الطلاق؟ هذا سؤال دار بخاطرك كل من استمع إلى حديث ظافر.
لم يكن لدى شادية أي فكرة، لكنها كانت سعيدة لأن سيرين قررت أخيرًا السماح لظافر بالطلاق بل سعت بنفسها لذلك وحررته من قيود إجراءاته المكلفة من وجهة نظر امرأة مادية كشادية وهذا على الرغم من الثراء الفاحش لعائلة نصران، فهللت بفرحة:
“إنها لا تستحق أن تكون زوجتك على أية حال. من الجيد أنك ستطلقها. إنها لا تستحقك”، قالتها، وتدخل الآخرون على الفور.
“نعم، أنت شاب ووسيم، ظافر… أنت في أفضل سنوات عمرك الآن… كانت سيرين تجرك إلى الأسفل طوال هذا الوقت!”
وفجأة تحول التجمع إلى مهرجان للتشهير، وتحدثوا عن سيرين كما لو كانت مجرمة لا تُغفر ذنوبها.
كان ينبغي أن يشعر ظافر بالسعادة لأنهم كانوا يدافعون عنه، ولكن لسبب ما، وجد كلماتهم حادة ووقحة للغاية.
غادر ظافر قصر نصران في وقت أبكر من المعتاد واتجه عائداً إلى قصره.
السماء بدأت للتو في إسدال ستائر غيومه عندما وصل إلى المنزل… فتح الباب ودخل القصر… وعندما لم ير شيئًا سوى الظلام، تذكر فجأة أن سيرين قد غادرت… غير ملابسه إلى ثوب منزلي مريح وألقى معطفه في الغسالة.. ولسبب ما شعر بإرهاق غير عادي اليوم.
ذهب إلى قبو النبيذ ليحصل على زجاجة حتى يتمكن من الاحتفال الزائف برحيل سيرين … ولكن عندما وصل إلى قبو النبيذ ورأى الباب مغلقا، أدرك بعد فوات الأوان أنه لا يملك المفتاح.
لم يكن ظافر يحب الغرباء في منزله، لذا لم تكن هناك خادمات أو مساعدات في قصره… ومنذ أن تزوج سيرين ، كانت هي من تعتني بشؤون المنزل.
لم يكن بوسعه سوى العودة إلى غرفته… والتقط هاتفه ليتصفح رسائله فقط ليجد نصوصًا متعلقة بالعمل… ألقاه بنزق عندما لم يجد اتصالاً من سيرين، كما أنها لم ترسل له رسالة نصية للاعتذار على الإطلاق.
تأفف بضيق وتوجه إلى المطبخ وعندما فتح باب الثلاجة أصيب بالذهول، إنها امرأة كاملة لقد تركت له بالإضافة إلى الطعام الكثير من المكملات الغذائية.
وفجأة تحولت معالم وجهه من الحنين إلى السخرية وذلك عندماعالتقط أحد الأكياس وقرأ التعليمات الموجودة عليها:
“يجب عليا تناوله مرتين يوميًا لعلاج العقم”.
العقم؟!
استنشق رائحة المكمل الغذائي، وكانت رائحته مقززة… لقد تذكر للتو كيف كانت سيرين ذات رائحة غريبة، لذا كان هذا هو السبب… سخر منها بصمت. لم يسبق لهما ممارسة علاقة زوجية من قبل، لذا مهما تناولت من أدوية، فلن تحمل أبدًا… إنها حتماً مجنونة… هذا ما تفوه به ظافر وهو يهز رأسه بيأس من تصرفاتها الخراء.
عشق لا يضاهى تمصير أسماء حميدة ، لمتابعة مواعيد النشر يرجى الانضمام إلى جروب روايات الأسطورة أسماء حميدة، أو متابعة صفحة روايات أسماء حميدة.
في فندق مظلم وصغير، فتحت سيرين عينيها بصعوبة… رأسها ينبض بقوة، كان العالم من حولها صامتًا. أدركت حينها أن حالتها ساءت مرة أخرى.
قبل ذلك، كانت لا تزال قادرة على سماع بعض الأصوات، حتى من دون أجهزة السمع الخاصة بها.
دفعت نفسها إلى أعلى وتحسست الطاولة بجوار السرير حتى وجدت الدواء الذي تحتاجه… وضعت الحبوب في فمها، وتذوقت مرارته أو ربما مرارة قلبٍ مكسور.
في اليوم السابق، غادرت قصره، الذي كان منزلها طيلة السنوات الثلاث الماضية. في البداية، ذهبت إلى منزل والديها، منزل تهامي.
عند الباب وقبل أن ترفع قبضتها الرقيقة لتطرقه، استمعت إلى والدتها سارة وأخوها تامر يناقشان كيف سيقومان بتزويجها لرجل يبلغ من العمر 78 عامًا إذا طردها آل نصران، في هذه الأثناء فقدت سيرين صوابها عندما سمعت ذلك… وحينها أدركت أخيرًا أنها لم تعد تمتلك مكانًا لتسميه موطنًا.
نهضت بضعف وعلى الرغم من أنها لم تأكل أي شيء لمدة يومين، إلا أنها لم تشعر بالجوع… كان المكان هادئًا جدًا، وصمته المطبق بعث الخوف بقلبها المنقبض… لقد زاد هطول الأمطار في المدينة هذا العام بشكل متكرر أكثر مما كانت عليه في السنوات السابقة من هدر نابضها.
حدقت سيرين بالمشاة عبر نافذة الغرفة الذين كان معظمهم يتنزهون أزواج أو في مجموعات… ابتسمت بحزن فهي الوحيدة المنبوذة التي ظلت تعيش حياتها داخل قوقعة بمفردها.
ارتدت ملابسها وغادرت الفندق قاصدة محطة القطار لتشتري تذكرة حافلة لتغادر المدينة وقررت الذهاب إلى منزل مربيتها في الريف…. كانت مربيتها فاطمة تعتني بها عندما كانت طفلة.
كانت الساعة التاسعة مساءً عندما وصلت سيرين… وحالما رأتها فاطمة بدت مندهشة بشكل سار.
انهمرت دموع سيرين عندما رأت ابتسامة فاطمة الدافئة. مدت يدها إليها وعانقتها… تقول بنشيج: “أمي”.
بسبب مشاكل صحية، لم تتزوج فاطمة قط ولم تنجب أطفالاً… لذا كانت فاطمة أقرب إلى سيرين من والدتها.
في تلك الليلة، احتضنت سيرين مربيتها.. تمامًا كما كانت تفعل وهي طفلة صغيرة بائسة تبحث عن الحنان والعطف… لفت فاطمة ذراعيها حول سيرين، لتدرك أن الأخيرة كانت نحيفة للغاية وذلك عندما ضغطت بيدها على ظهر سيرين التي ترتجف بشكل لا يمكن السيطرة عليه.
أجبرت فاطمة نفسها على الهدوء تحاول تجاهل الحالة التي عليها صغيرتها، وسألت بحذر،
“هل كان ظافر يعاملك جيدًا، سيرين ؟”
شعرت سيرين بألم حاد في حلقها عندما سمعت اسم ظافر… وأرادت أن تكذب على فاطمة وتخبرها أن ظافر كان يعاملها بشكل جيد، لكنها كانت تعلم أن فاطمة ليست غبية.
وبما أنها قد قررت بالفعل تركه، لم تعد هناك حاجة للكذب على نفسها أو على الأشخاص الذين يحبونها.
“لقد انتهت أيامه وعاد الشخص الذي يحبه… لقد قررت أن أتركه وطلبت الطلاق.”
أصيبت فاطمة بالذهول، ولم تستطع أن تصدق ما سمعته… فقد أخبرتها سيرين عدة مرات من قبل أنها تريد أن تقضي بقية حياتها مع ظافر.
ولأن فاطمة لم تكن تعرف ماذا تقول لتعزية سيرين، أردفت قائلة لها:
” إن هناك الكثير من الأسماك الأخرى في البحر، ولا بد أن يكون هناك سمكة واحدة ستحبك كما أنت سيرين لا تبتأسي صغيرتي إنه أحمق لا يعرف قيمتك.
أومأت سيرين برأسها بصمت… إذ كان الطنين في أذنيها يحجب صوت فاطمة المريح… في تلك الليلة، تمكنت سيرين من الحصول على قسط من النوم الجيد، وهو أمر نادر الحدوث.
ولكن عندما استيقظت، استقبلها مشهد مخيف للدماء تلطخ المكان الذي كان رأسها مستلقياً عليه بما فيه السرير والوسادة.
لمست سيرين أذنها اليمنى، وشعرت بأصابعها لزجة… وأخذت تنظر إلى يدها الملطخة بالدماء…. و