رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل العشرون

عشق لا يضاهى

الفصل 20

بخلاف النوم والطعام لم يكن في حياة ظافر شيء سوى العمل كأنه انصهر مع مكتبه لا يغادره إلا ليعود إليه وكأن الجدران احتوته حتى أصبح جزءًا منها.

أما طارق، فقد وجد نفسه مضطرًا للذهاب بنفسه لاستعادة المتعلقات التي تركتها سيرين زوجة ظافر في شقة كارم.

لم يكن الأمر سهلًا عليه خاصة وأنه شعر أن شيئًا ما في ظافر قد تبدل فمنذ عودته من مقاطعة سان لم يعد الرجل ذاته إذ صار أكثر صمتًا، أكثر انعزالًا كمن فقد تواصله مع الواقع أو ربما وجد ملاذه في عالم آخر لا يدركه سواه.

لم يستطع طارق كبح فضوله فاستدار نحو ماهر وسأله محاولًا انتزاع إجابة تُفسر كل هذا الغموض:

“ما الذي يحدث مع ظافر هذه الأيام؟”

هزّ ماهر رأسه ببطء وكأن الأمر يحيره أيضًا، ثم قال:

“لست أدري سيد طارق. ولكن… هل تعتقد أن السيد نصران وقع في حب السيدة تهامي فعلًا؟”

ارتعشت ملامح طارق للحظة، نظرة غامضة تألقت في عينيه، ثم قال بصوت خافت كمن يحدث نفسه أكثر مما يجيب:

“من يدري؟”

ركب طارق سيارته وأشار لسائقه بالتحرك، ومن ثم أراح رأسه على مسند المقعد، وأغمض عينيه للحظة بينما فرك البقعة بين حاجبيه وكأنه يحاول ترتيب أفكاره وسط ضجيج التساؤلات.

بينما انهالت عليه الأسئلة التالية:

إذا كان ظافر يحب سيرين حقًا، فلماذا كل هذا الحرص على الاستحواذ على مجموعة تهامي؟ ألم يكن يعلم مدى أهميتها لها؟

مجموعة تهامي كانت إرث أبيها، الرجل الذي أفنى عمره في بنائها، الرجل الذي لم يحب شيئًا في هذا العالم بقدر ما أحب ابنته.

لكن إن كان يحبها حقًا، فلماذا أرسل رجاله إلى الخارج لعرقلة أعمال عائلتها؟ لماذا كان يتصرف وكأن سقوطهم يعني له أكثر مما يعني نجاحه هو؟

لم يكن طارق يعلم بعد أن سيرين قد قطعت علاقتها بسارة وتامر، لكنه كان متأكدًا من شيء واحد وهو أنه لم يكن في حياتها أصدقاء، فقط بقايا من أقارب بعيدي الصلة وأشباح من الماضي لا طائل من ورائها.

صحيح أن ظافر لم يكن من ذلك النوع الذي يعامل أي امرأة بكل هذه القسوة، بل على العكس.

ما هذا التناقض حين كان مع دينا أغرقها في كل ما ترغب به وكأنها أميرة متوجة.

لكن مع سيرين… كان مختلفًا كأنها عدو، لا زوجة، قسوة ظافر تجاهها لم تكن عادية بل كانت باردة، ممنهجة، لا تحمل أي أثر من المشاعر التي يُفترض أن يحملها زوج لزوجته وكأنها في نظره لم تكن سوى ورقة خاسرة عليه التخلص منها بأي وسيلة ممكنة.

بينما كان طارق غارقًا في دوامة أفكاره تتلاطم في رأسه موجات من الذكريات والمشاعر المتناقضة، وجد نفسه ينعطف إلى حيّ راقٍ، حيث المباني الشاهقة تتفاخر بهندستها، والنوافذ العريضة تعكس أضواء المدينة في مشهد أشبه بلوحة زيتية متقنة التفاصيل.

وما إن أوقف سيارته وترجل منها، حتى جالت عيناه في المكان، زفر ببطء وهو يتمتم بسخرية:

  • “مستحيل أن يكون هذا المكان رخيص.”

لم يترك ماهر لجملته أن تظل معلقة في الهواء، فأجاب بنبرة هادئة لكنها تنضح بمعرفة أكيدة:

  • “كل قدم مربع هنا تتكلف آلاف الدولارات على الأقل.”

ابتسم طارق بزاوية فمه دون أن يرد إذ لم يكن السعر هو ما يثير اهتمامه فلطالما نظر إلى تلك الشقق كعلب زجاجية خاوية لا تساوي شيئًا في عينيه لكنه كان يدرك أن امتلاك واحدة منها بالنسبة للكثيرين يعد حلمًا بعيد المنال بل ضربًا من ضروب الرفاهية المستحيلة.

بخطوات ثابتة توجه نحو باب المبنى وما إن اقترب حتى أطلت ماريا مدبرة المنزل من الداخل تحيّه بجملة مقتضبة، صوتها خالٍ من أي دفء:

“أغراض السيدة تهامي موجودة في غرفة النوم الرئيسية بالأعلى، السيد كارم يطلب منك المغادرة فور انتهائك من جمعها.”

لم تكن بحاجة إلى إخفاء اشمئزازها من الرجل الواقف أمامها فرغم هندامه الأنيق ونظرته الواثقة إلا أنها رأت فيه شيئًا داكنًا، نذير شر مستتر خلف قناع من الجاذبية المتقنة، ولهذا لم تبذل أي جهد في أن تكون لبقة.

رفع طارق حاجبه قليلاً، وعيناه تلتمعان بسخرية خفيفة:

“وأين السيد كارم؟”

شخرت ماريا ضاحكة بفتور، ثم ردت ببرود متعمد:

“لستُ خادمته الشخصية، كيف لي أن أعلم أين ذهب؟ السيد كارم رجل مشغول ولا يملك وقتًا ليضيعه مع أمثالكم…”

ثم استدارت عائدة إلى عملها تتمتم بكلمات مبهمة لكن مغزاها كان واضحًا بما يكفي.

راقبها ماهر بملامح متجهمة بينما التوى فمه في تعبير ممتعض وكاد أن يرد عليها برد لاذع، لكن طارق رفع يده ليوقفه، وكأن الأمر لا يستحق عناء الجدال.

شيء ما في ردة فعله الهادئة جعل ماهر يرمقه باستغراب؛ منذ متى يتحمل طارق الإهانات دون أن يرد الصاع صاعين؟

لم يمنحهم طارق وقتًا للتفكير بل مضى مباشرة نحو غرفة النوم الرئيسية فوجد الأغراض مكدسة بعناية كما لو أن شخصًا ما أراد أن يضع حدًا لأي وجود سابق لها في هذا المكان.

فتح طارق حقيبة السفر وبدأ في جمع الأشياء دون تفكير أو تمييز، يداه تعملان بآلية باردة، لكن فجأة، تجمد في مكانه.

شيء ما بين تلك الأغراض جعله يتوقف، عيناه تعلقتان به وكأن الزمن قد جذبه من عنقه ليجبره على التباطؤ…

كانت أنامله تتلمّس القلادة برفق، تتأمل تفاصيلها كأنها تعيد إليه ذكريات ضائعة في زوايا الزمن.

كانت القلادة قديمة الطراز على شكل تنين منحوتة من الكريستال متوارثة بين الأجيال، لم يكن هناك سوى نسخة واحدة منها، واحدة فقط!

تلاعب الضوء على سطحها الأملس كاشفًا عن بريق خافت يحمل في طياته عبق الماضي.

أطبق طارق جفنيه قليلًا واستدعى من ذاكرته صورة ذاك اليوم البعيد، أربعة أعوام مضت منذ أن تم إنقاذه ومنذ تلك اللحظة لم يتردد لحظة في منح القلادة لمَن أنقذه… لكنه الآن يقف أمامها من جديد. كيف وصلت إليه مرة أخرى؟ لماذا؟

تجمدت أنفاسه وطافت الأسئلة في رأسه كدوامات بحر لا تهدأ.

قبض على القلادة بقوة، كأنه يحاول استنطاقها، ثم التفت إلى ماهر، صوته كان حازمًا رغم التيه الذي يملأ صدره:

“اجمع بقية الأغراض… وخذها بعيدًا.”

وبعد ساعات من الترقب، قطع رنين الهاتف الصمت الذي أحاط به منذ رحيل ماهر.

الرقم لم يكن مألوفًا، لكنه أجاب بصوت متحفظ.

من الجهة الأخرى جاءه صوت الشخص الذي استأجره للتحقيق في الحادثة التي غيّرت مجرى حياته منذ أربع سنوات:

“السيد طارق، وفقًا لتحقيقاتنا… الشخص الذي أنقذك في ذلك اليوم لم يكن مجهولًا، إنها ابنة عائلة تهامي… سيرين!”

سيرين؟!

ظل الصوت يتردد في رأسه، لكنه لم يستوعب بعد.

أكمل المتصل حديثه، متحمسًا لما اكتشفه:

“لقد حصلنا بعد جهدٍ مضنٍ على صورة التقطها أحد العاملين بالمستشفى في ذلك الوقت لقد أرسلتها إليك الآن، تحقق منها بنفسك.”

انزلق نظر طارق إلى الهاتف المرتجف بين أصابعه وبحركة لا إرادية فتح الرسالة فظهرت الصورة أمامه، مهزوزة، مشوشة، بالكاد واضحة… لكنها لم تكن بحاجة إلى تأمل فالقلب يعرف قبل العين.

بين الظلال والدماء، هناك… في عمق الصورة، كانت سيرين!

سيرين!

شعر بارتجافة باردة تسري في عموده الفقري فحدّق في الصورة مجددًا، متجاهلًا ضبابيتها، متجاهلًا السنين التي مضت.

كانت هناك، في لحظة غارقة بالدم، لحظة لا ينبغي أن تكون فيها، لكنها كانت…

لقد كانت سيرين حقًا!

تحولت أنامله إلى لون شاحب أقرب إلى البياض، كأن الحياة انسحبت منها، وهو يطبق قبضته على الهاتف بقوة تكاد تحطمه. أصابعه ترتعش، وأنفاسه تتلاحق في اضطراب. لم يكن الأمر مجرد مكالمة، بل زلزال يهز كيانه من الأعماق.

ذكرياتٌ قديمة انبثقت فجأة من ركام النسيان، كأنها أشباح خرجت من العتمة بلا استئذان. كل مشهد، كل كلمة نطق بها في حقها، كل نظرة ازدراء رماها بها، عادت تتجسد أمامه بوضوح مؤلم.

تذكر ذلك اللقاء الثاني، حين كانت سيرين قد أصبحت خطيبة ظافر حديثًا. كانت واقفة أمامه، تحدّق فيه بعينين تحملان دهشة مربكة، مزيجًا من التعرف والإنكار، وكأنها تواجه شبحًا من ماضيها.

همست بدهشة: “أنت؟”

حينها، ظن طارق أنها تتظاهر فقط، مجرد محاولة لإثارة فضوله أو لفت انتباهه. لم يدرِ أن الحقيقة كانت على النقيض تمامًا، أبعد مما تخيله عقله المتشكك.

ثم جاءت دينا، تقلب حياته رأسًا على عقب، تزرع الشك في كل تفصيلة، كأنها تشعل نيرانًا لا تنطفئ. بدأ يقتنع بأن سيرين ليست سوى امرأة انتهازية، تجيد ارتداء الأقنعة والتلاعب بالمواقف لصالحها. كل لقاء بينهما كان يتحول إلى ساحة معركة، يسخر منها بلا رحمة، يترصدها في كل مناسبة، كأنه يستمتع بتمزيق كبريائها.

ومع ذلك… رغم كل ذلك، لم تخبره أبدًا بالحقيقة.

لم تخبره أنها هي من أنقذته.

لماذا؟ لماذا أخفت الأمر عنه؟

سؤالٌ كاد يخنقه، ينهش روحه كما ينهش الذنب صدر مذنبٍ متأخر عن التوبة.

عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة، لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع (روايات عالمية بنكهة عربية) أو متابعة صفحة الكاتبة على الفيس بوك (روايات أسماء حميدة

الفصل التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top