الفصل 25
الليلة التي غفت فيها الأرواح على وسادة الحنين
جاءها صوت زكريا متوهجًا بالشغف كأنما يحمل قلبه بين كلماته ويسلمه إليها بكل طمأنينة:
- “أمي، هل وصلتِ؟ حتى حين لا أكون بجواركِ تذكّري أن تشربي كوبًا من الحليب الدافئ قبل أن يزوركِ النعاس ولا تنسي الفيتامينات أيضًا، لا أريدكِ أن تهملي صحتكِ.”
ابتسمت سيرين ورفعت صوتها بحنانٍ يقطر رعايةً:
- “وأنتَ، لا تدع الغطاء ينزلق عنك أثناء النوم؛ فقد يهاجمك البرد ليلًا دون رحمة!”
ضحك زكريا ضحكة قصيرة لكن صوته كان مشبعًا بفخرٍ طفوليٍّ لذيذ:
- “وضعتُ لعبتي المفضلة ولعبة نوح أيضًا في حقيبتكِ؛ حتى إذا هرب النوم من عينيكِ فليكن لهما شرف تسليتكِ حتى يعود.”
كان زكريا طفلًا لا يعرف الوسط إما أن يلتزم الصمت التام أو ينهال بالكلام بلا هوادة كعجوزٍ استوطنته الحكمة المبكرة.
لم تفهم سيرين أبدًا كيف تشكّل فيه هذا الطبع لكنها في بعض اللحظات كانت تشعر وكأنها تتحدث إلى والدها لا إلى ابنها الصغير.
- “حسنًا، سأتذكر.”
أنهت المكالمة أخيرًا وإن كان قلبها لا يزال معلقًا بصوته كأنها أغلقت الهاتف على مضض وأبقت روحها على الطرف الآخر.
تنهدت سيرين بأسى وهي تتذكر عندما غادرت المدينة في ذلك الزمن، كانت الروح تثقلها الكآبة، والحواس يغلفها الخدر وكأن العالم كله صار ضبابيًا، وأذناها لم تعودا تستجيبان لصخب الحياة كما كانتا.
وفوق ذلك كان بداخلها حياةٌ أخرى تنمو حياةٌ لم يكن جسدها مستعدًا لاحتضانها بعد.
ظلت سيرين لليالٍ طوال تقتات على الأرق، وعلى الغياب، وعلى جوعٍ لم يكن للطعام وحده أن يُشبعه، ثم جاء أطفالها، جاءوا كضوءٍ تسلل من تحت الأبواب الموصدة، حقاً لم يُعيدوها تمامًا كما كانت لكنها استعادت معهم لونًا من العافية.
وعندما كبروا وخطوا خطواتهم الأولى، ونطقوا كلماتهم الأولى، وحين تعلموا الاعتناء بها… أصبحوا منقذيها.
شربت سيرين كوب الحليب الدافئ كما أوصاها زكريا ثم تناولت الفيتامينات، وعندما فتحت حقيبتها وجدت الأرنبين الصغيرين يرقبانها بعيون زجاجية تفوح منهما رائحة الحليب الخفيفة كأنهما امتدادٌ لدفء طفليها.
في تلك الليلة لم تكتفِ فقط بالنوم بل غفت بروحٍ مطمئنة تعانق الأرنبين كما لو كانا ذراعي زكريا الصغيرتين تحيطان بها… ولم ترَ في أحلامها سوى وجهه.
عندما يقرع القدر أبوابه المغلقة…
في صباحٍ باردٍ تلفح نسماته ستائر الغرفة برقة، اهتز هاتف سيرين معلنًا عن رسالةٍ كُتبت بحروفٍ تحمل صدى المفاجأة:
“ظافر سيعود اليوم… سيكون في فندق كونتننتال لحضور مزادٍ خيري في تمام التاسعة مساءً.”
توقفت أنفاسها للحظة كأن الزمن قرر أن يأخذ استراحة قصيرة قبل أن يعود ليجري من جديد.
ظلّت سيرين تحدق في الشاشة وكأنها تبحث بين الكلمات عن تفصيلٍ غائب، عن تفسيرٍ لهذا اللقاء المفاجئ الذي لم تحسب له حسابًا حتى وإن كانت هي من تسعى لذلك.
قبل أن تعود إلى حياتها المعتادة كانت قد أوكلت إلى بعض المعارف مهمة البحث عن أثره.
في تلك الأثناء كانت سيرين تعرف أنه في الخارج يتنقل بين المدن والعواصم، يتولى مشاريعه بشغفٍ لا يعرف التوقف.
لكنها لم تتوقع أن يكون موعد عودته قريبًا إلى هذا الحد… قريبًا كأنفاسها المرتبكة الآن.
أربع سنواتٍ مضت كأنها صفحاتُ روايةٍ ثقيلة تتقلبها رياح الزمن على مهل، خلالها كانت سيرين تشق طريقها ببطء، تمضي قدمًا وهي تجمع شتات نفسها من بعده، تبني عالمًا لا يحتاج إلى ظله.
لكنها الآن… الآن فقط، وهي تقرأ هذه الرسالة شعرت أن خطواتها التي كانت ثابتة بدأت تتردد، أن قلبها الذي تعلم الصمود عاد يخفق كأنه لم يتعلم شيئًا.
هنا أيقنت أن الاقتراب منه بإرادتها مرة أخرى كمن يمد يده إلى نارٍ يعرف يقينًا أنها ستحرقه ومع ذلك لا يستطيع أن يقاوم دفئها المغري.
دقت الساعة التاسعة مساءً إيذانًا ببداية المزاد الخيري حيث اصطفت الأنفاس على حواف الترقب وتراقصت الأضواء على أوجه الحضور كأنها تقتنص ومضات الشغف المختبئ في الأعين.
في مثل هذه الفعاليات لم يكن لكبار الشخصيات أن يختلطوا بالسواد الأعظم بل خُصِّصت لهم غرف خاصة تُطل على الساحة مثل الطغاة الذين يشاهدون مصائر الآخرين تُباع وتُشترى دون أن يلوثوا أيديهم بالمساومة.
كان ظافر أحد هؤلاء، لا حاجة له حتى لأن يرفع يده أو أن يُعلن عن رغبته فهناك دائمًا من ينفّذ نيابة عنه بأمر لا يُرد ونظرة لا تُناقش.
وقف ظافر في شرفته بالطابق الثاني مرتديًا بذلة سوداء صُمِّمت لتُناسب هيبته، عيناه الزرقاوان لم تتزحزحا عن المشهد في الأسفل كأنهما مِرقاب يُحصي الأنفاس، يرصد حركة الأموال التي تتطاير كما تتطاير أوراق الخريف في مهب الريح.
لكنه لم يكن هناك من أجل مجرد مزاد بل من أجل قطعة بعينها… قلادة زمردية كانت يومًا ما تُطوِّق عنق سيرين مثلما كانت أيامًا تُطوِّق قلبه دون أن يدري.
القلادة لم تصل إلى هنا صدفة لقد باعها سارة وتامر بثمنٍ بخس، كأنها لا تعني شيئًا لكنها كانت بالنسبة له كنزًا ضائعًا أثرًا من زمن لم يدفن بعد.
طوال السنوات الماضية، كلما لاحت له أخبار سيرين كان يُطاردها كصياد يرفض أن يُفلت فريسته وكأن ماضيه معها لم يكن مجرد ذكريات بل ندبة لم تلتئم تلسعه كلما حاول نسيانها.
دارت عجلة المزاد وحين جاء دور القلادة، أعلن المُنادي بصوت رنان:
“عشرة ملايين دولار، السعر الافتتاحي!”
لم يحتج ظافر إلى التردد إذ أومأ برأسه ليُرفع المِجْداف على الفور:
“عشرون مليون دولار!”
انحبست أنفاس الحاضرين كما لو أن السعر لم يتضاعف بل أن الأرض قد انشقت عن رقم لا يُمكن مجاراته.
في الحقيقة لم يكن سر الصدمة في المال بل في الشخص الذي ألقى به بهذه السهولة؛ فالجميع يعرف من هو ظافر والجميع يعلم أن من يُنافسه في شيء ينتهي به الحال خاسرًا… أو مفقودًا.
لذا كان الاعتقاد السائد أن المزاد قد حُسم حتى انقلبت الطاولة على حين غِرة…
في الصفوف الأمامية وقفت امرأة تُشع أنوثة وثقة، رفعت مِجْدافها في الهواء ثم صدح صوتها مُفعمًا بالتحدي، مُحمّلًا بيقين لا يتزعزع:
“ثلاثون مليون دولار!”
كأن الزمن قد توقف، كأن الضوضاء ابتلعتها العدم، ليس لهوْل الرقم بل لجرأة من تفوّهت به، جرأة لم يشهدها المكان من قبل جرأة نادرة… وخطيرة.
من ذا الذي يجرؤ على الوقوف في وجه ظافر نصران؟
هو ليس مجرد رجل أعمال بل إنه إعصار يبتلع من يقترب، فمن ظن نفسه نِدًّا له خرج مُدمَّرًا-إما شركته التي انهارت كبرج من ورق، أو سمعته التي احترقت كنار في هشيم، أو حياته التي أُعيدت صياغتها بطريقة لم يكن يتخيلها حتى في أسوأ كوابيسه.
والآن ها هي امرأة تُخرج لسانها له أمام الجميع تُعلن التحدي بصوتٍ ناصعٍ كالخنجر المسلول…
من تكون؟
استدار ظافر نحو الصوت ببطء وكأن الهواء أصبح أسمك، كأن الكون نفسه يتباطأ ليُفسح مجالًا لهذه اللحظة.
وعندما وقعت عيناه عليها… انفجر داخله بركانٌ صامت.
كانت هي… سيرين!
لكنها لم تكن سيرين التي عرفها، لم تكن الفتاة الهادئة التي تفضل الألوان الداكنة والتي اعتادت أن تختبئ خلف ظلالها.
لا، هذه امرأة خرجت من رماد الماضي كالعنقاء، مشرقةً كوهج القمر، شامخةً كملكة لا يجرؤ أحد على منافستها.
كانت سيرين ترتدي ثوبًا عاجيًا يُعانق تفاصيلها برقة مُغرية، فتحة عنقِه تنحسر بما يكفي لتبوح بجمالها دون ابتذال، شعرها المتموج مُنسدل بحرية تتناثر فيه مشابك من اللؤلؤ تُشع وهجًا خافتًا مع كل حركة كأنها نجومٌ عالقة في ليلٍ ساحر.
أما ظافر…
فشعر في تلك اللحظة وكأن دمه يغلي، كأنها ليست فقط أمامه، بل تحترق في عينيه، كأن كل ما كان مدفونًا بداخله عاد ليشتعل بضراوة.
لم يكن الأمر مجرد مفاجأة بل كان إعصارًا داخليًا اجتاح كل يقينٍ كان يظنه ثابتًا، وكأن قلبه… عاد لينبض باسمها من جديد.
عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة، لمتابعة مواعيد نشر الرواية يرجى الانضمام إلى جروبنا المتواضع (روايات عالمية بنكهة عربية) أو متابعة صفحة الكاتبة على الفيس بوك (روايات أسماء حميدة