الفصل 29
في قبضة القدر: لقاء لا مفر منه
انعقد حلق ظافر وكأن يداً خفية شدّت عليه وظهرت في عينيه تلك النظرة التي لا تخطئها عين، مزيج غريب من التأهب والارتباك.
لم يكن بحاجة إلى أن ينطق بحرف فالصمت وحده كان كفيلاً بأن يفهم ماهر ما يدور في رأسه.
في كواليس مجموعة نصران كانت الأحاديث تتناثر كالهشيم في مهب الريح.
الجميع يترقب قدوم رجل الأعمال الغامض الذي قيل إنه سيضخ أموالًا طائلة لدعم مشروع الأمل، ذاك المشروع الخيري الذي أُعدّت له العدة ليكون بصمة لا تُمحى في سجل الإنسانية.
تبادلت الألسن الهمسات والتكهنات:
“أي نوع من الأعمال التجارية هذا الذي يدفع صاحبه إلى رمي أمواله بهذا السخاء؟!”
“هل هو بعيد المنال؟”
“ومن يدري؟ ربما يملك من المال ما يثقل كاهله، فلا يجد له مصرفًا!”
“سمعتُ أنه أتى من خارج البلاد…”
وفي هذه اللحظة تحديدًا ظهرت سيارة سيرين الفارهة أمام المقر الرئيسي لمجموعة نصران وتوقفت بثبات كأنها سفينة ألقت مرساتها بعد طول إبحار.
رفعت سيرين بصرها إلى ناطحات السحاب التي ارتفعت شامخة كل واحدة منها تروي فصولًا من قصة نجاح بدأت بخطوات ثابتة وانتهت بإمبراطورية تُحسب لها ألف حساب.
كل ذلك كان بفضل الإدارة الحديدية لظافر ورؤيته الثاقبة التي جعلت الشركة تُحلّق في سماء النجاح وكأنها طائر جبار لا يعرف الهبوط.
لكن سيرين لم تكن أقل شأنًا أربع سنوات مضت لم تهدرها سُدى بل حوّلتها إلى سلاح ماضٍ، فبمساعدة كارم أطلقت سيرين شركتها الخاصة وراحت تنسج خيوط نجاحها بصبر ودقة، وراكمت ثروة لم تكن تتخيل أنها ستصل إليها يومًا.
أما الآن وقد عادت إلى المدينة فقد جاءت محمّلة بخطط مُحكمة ولم يكن مشروع الأمل سوى البوابة التي ستعبر من خلالها إلى قلب اللعبة.
كانت تعلم أن مجموعة نصران بصدد إطلاق هذا المشروع الطموح حيث سيتم ضخ رؤوس أموال ضخمة لتنفيذه على مستوى البلاد لذا وجدت الفرصة سانحة لتقديم اقتراح استثماري يفتح لها الباب للعب دور في هذه المعادلة، وللاقتراب من ظافر ليس كمتفرجة بل كجزء من المشهد.
لم تترك شيئًا للصدفة كانت تدرك أن مجرد تقديمها لعرض شراكة مالية لم يكن ليكفل لها فرصة لقاء ظافر وجهًا لوجه لذا اختارت أن تسبق خطوتها الأولى بمفاجأة مدوّية.
في الليلة الماضية ظهرت في المزاد الخيري حيث الأضواء تتقاطع والعيون تترقب، لم تكن بحاجة إلى أن ترفع صوتها أو أن تثير ضجيجًا، حضورها وحده كان كافيًا ليُشعل فضول ظافر ويدفعه إلى الاقتراب… على ظهر أسده الخاص!
عندما انفتح باب السيارة ببطء نزلت سيرين بخطوات واثقة كأنها ملكة تهبط من عرشها على أرض المعركة.
الهواء النهاري لامس بشرتها برقة بينما تراقص ضوء الشمس على ثوبها الأنيق كأنها شهب تائهة في فضاء مظلم.
كان ماهر ممثل مجموعة “نصران”، يقف عند المدخل ينتظر بترقب يشوبه القلق وبمجرد أن وقعت عيناه عليها انتفضت ملامحه بدهشة خفية.
لم يكن يتوقع أن يكون صاحب العمل… امرأة! بل امرأة تحمل حضورًا طاغيًا يسبقها بخطوة.
تلعثم لثوانٍ قبل أن ينطق:
— “أنتِ… تهامي؟”
رفعت حاجبها في مزيج من الاستفزاز والمرح وكأنها تراقب رد فعله كصياد يختبر صبر فريسته.
لم تؤكد، ولم تنفِ بل تركت الغموض يتلاعب بفضوله.
— “لماذا؟ هل يبدو لك أنني لا أستطيع أن أكون تهامي؟”
ارتبك للحظة ثم حاول التراجع عن سوء التقدير:
— “بالطبع لا، أنتِ… ملاك جميل من الداخل والخارج.”
كانت كلماته تتدحرج بسهولة مبالغ فيها وكأنه ينفث دخان مجاملة زائفة.
ابتسمت سيرين ابتسامة هادئة بينما عقلها يدرك الحقيقة: لقد وقع في فخها بسهولة.
قادها ماهر إلى قاعة كبار الزوار ثم انحنى قليلاً قبل أن يغادر ليستدعي المسؤول.
بقيت سيرين في الغرفة تتفحص المكان بعيني صقر يدرس أرضه قبل الهجوم.
لم يطل انتظارها فسرعان ما تناهت إلى مسامعها خطوات واثقة يتبعها صوت باب يُغلق بإحكام خلف الداخل.
رفعت نظرها فتلاقت عيناها بعينين تعرفهما جيدًا… عينين كأنهما شفرتان باردتان تستعدان لشق طريقهما إلى أعمق نقطة في عقلها.
إنه ظافر.
لم يكن بحاجة إلى أن ينطق اسمه فقد كانت نظراته تكتب اسمه في الهواء بينها وبينه.
التقت أعينهما في صمت متوتر لكنه كان صمتًا صاخبًا بالأسئلة غير المنطوقة.
أما سيرين، فقد تظاهرت بالدهشة وكأنها ترى وجهًا غريبًا لأول مرة.
— “أنت؟”
تضييق عينيه الطفيف كشف عن عدم تصديقه لكنها تابعت عرضها ببراعة ممثلة محترفة.
اقترب منها خطوة فبدا كأن الهواء بينهما صار أثقل وكأن الغرفة ضاقت فجأة.
همس بكلمات ذات مغزى كمن يلقي شبكة من الشك حولها:
— “يا لها من… مصادفة.”
تعمد التوقف عند الكلمة الأخيرة ناطقًا إياها وكأنه يكشف خدعة سحرية أمام جمهور مذهول.
لكنها لم تترنح بل أمالت رأسها قليلًا وحدقت فيه ببرود متصنع:
— “أنت المسؤول عن هذا المشروع؟”
ابتسم ظافر ابتسامة باهتة لكنها كانت تحمل خلفها ألف معنى، ومن ثم أجابها بابتسامة واثقة:
— “أنا مسؤول عن مجموعة نصران.”
ثم أضاف، ببطء مقصود:
— “اسمي ظافر نصران.”
نظر إليها نظرة طويلة وكأنه يعيد رسم ملامحها في ذاكرته، يبحث عن الفجوات، عن العلامات التي قد تكشف سرها.
في ذلك اليوم، اختارت سيرين ارتداء ملابس عمل رسمية بألوان حيادية لا تحمل أي رسائل لكنها رغم ذلك بدت أكثر حضورًا مما أراد، أكثر قوة مما توقع… وكأنها جاءت لتقلب الطاولة لا لتجلس عليها.
قبل أن تطأ قدماها عتبة اللقاء كان ظافر قد فكّك اللغز بأكمله.
لم يكن بحاجة إلى تلميحات أو تقارير فالأمر كان واضحًا كالشمس التي تشرق على غير موعد.
سيرين لم تكن مجرد ذكرى تائهة في أروقة الماضي بل كانت سيدة أعمال ذات دهاء تؤسس شركاتها في الخفاء وتنسج خيوط المستقبل كما تريد.
منذ شهر كانت قد وضعت حجر الأساس لمشروع الأمل جالسة على طاولة التفاوض مع مدير العمليات في مجموعة نصران تناقش التمويل بعقل بارد وروح جامدة وكأنها لم تترك وراءها مدينةً من الذكريات المهدّمة.
والآن ها هي أمامه بكامل حضورها الذي لم يتزحزح قيد أنملة تمد يدها وعلى وجهها ابتسامة رسمية تكاد تفضح أكثر مما تخفي:
— “إذن، أنت السيد نصران. يا لها من متعة أن أقابلك.”
لم تهتز نبرتها، ولم ترفّ لها عين وكأنها لم تترك خلفها قلبًا احترق، وكأن هذا اللقاء ليس إلا محطة عابرة في جدول أعمالها الصارم.
لكن ظافر لم يكن من هؤلاء الذين يُتركون في الهامش، لم يكن من أولئك الذين يُنسون بسهولة كفقاعة صابون في مهبّ الريح.
وقبل أن تتمكن حتى من إنهاء جملتها قطّب حاجبيه وقطع حديثها بنبرة تحمل من السخرية بقدر ما تحمل من الألم:
— “لا أريد التحدث عن العمل اليوم. دعينا نتحدث عن فقدان ذاكرتك.”
كان يراقبها بعيني صياد أدرك أن فريسته تحاول التملص، يُمسك بخيوط اللعبة بإحكام منتظرًا أن تنزلق منها كلمة، أن يشي وجهها بشيء، أن تهرب نظراتها ولو للحظة.
لكن سيرين، كانت أقسى من أن تنهار بهذه السهولة.
عمّ الغرفة صمت ثقيل لم يكن مجرد صمتٍ عابر بل كان وكأن الأكسجين ذاته قد انسحب من رئتيها تاركًا وراءه فراغًا يخنق الروح قبل الجسد.
شعرت بأنفاسها تصبح أقصر وكأن الهواء قد أصبح يؤرقها وكأن الغرفة لم تعد تتسع لهما معًا.
أما ظافر فقد وجد نفسه أمام المرأة التي ظلّت تلاحقه كظلٍّ في ذاكرته، تتسلل إلى أحلامه رغمًا عنه، تُطارده كقصيدة غير مكتملة تأبى أن تُكتب حتى النهاية.
كيف له أن يصف إحساسه الآن؟ كيف له أن يواجه المرأة التي كانت يومًا شغفه الأكبر ثم أصبحت لغزه الأعقد؟
— “إذا كنتِ لا تتذكرينني، فمن تتذكرين؟ كارم؟”
لو أن هذه الكلمات كانت قد قيلت لسيرين في وقت آخر قبل سنوات ربما لكانت قد اشتعلت غضبًا وصفعت الاتهام بعاصفة من الإنكار، لكنها الآن ليست نفس المرأة.
الآن، هي أمٌ لطفلٍ مريض وأمام ذلك لا شيء آخر يهم.
تنفست ببطء وكأنها تجمع شتات أفكارها قبل أن ترد بصوت لم يحمل أي انفعال:
— “لا أفهم ما الذي تقصده، لكنني لا أكذب عليك ظافر. أنا لا أذكر أي شيء وهذا ليس اختياري… لقد أصبت باكتئاب يلتهم الذاكرة… يحوّل الدماغ إلى أرض جرداء تتلاشى فيها التفاصيل كما تتلاشى الألوان في لوحة تُركت تحت المطر… إنه ليس مجرد حزن إنه موتٌ بطيء لما كنته يومًا.”
توقفت للحظة تبحث عن الكلمات التي ستشرح ما لا يمكن تفسيره، ثم أضافت بصوت أكثر هدوءًا:
— “قال لي الطبيب إن فقدان بعض الذكريات قد يكون آلية دفاعية… أن العقل أحيانًا يمحو ما يؤذيه، يطمس الوجوه والأحداث كما تطمس الرياح آثار الأقدام على الرمال، ربما لم أشأ أن أتذكر… ربما لو عاد كل شيء سينهار شيء بداخلي لن أستطيع إصلاحه أبدًا.”
نظر إليها ظافر طويلًا كأنما يحاول أن يقرأ ما وراء كلماتها، أن يفكّ شيفرة مشاعرها كما اعتاد أن يفعل قديمًا.
لكن الحقيقة الوحيدة التي كان واثقًا منها الآن… أنه أمام امرأة لم يعد يعرفها، امرأة تحمل ملامح سيرين، لكن روحها؟ روحها أصبحت مجهولة… ومع ذلك بات هوسه الأعظم أن يبحر في أغوارها فهي وبجميع أحوالها أشبه بمغناطيس يجذبه إليها.