الفصل 32
كانت ملامح دينا شاحبة وكأن ظلًا ثقيلًا من الحيرة والضيق قد ألقى بنفسه فوق قسماتها، لم تفهم بعد ما الذي يجري لكن شيئًا ما في طارق تغيّر جذريًا خلال السنوات الأربع الماضية وكأنه لم يعد ذلك الرجل الذي عرفته؛ إذ كان دوماً ما يشيح بوجهه عن كل مطالبها، يتجاهلها بصمت قاتل كأن بينهما جدارًا شفافًا تراه ولا تستطيع اختراقه.
أما عن ظافر فلم تكن دينا واثقة من أنه سيكون عونًا لها لكنه كان من أولئك الرجال الذين لا يعجزون عن ترويض المستحيل.
لكن دينا لم تكن ممن يطلبون شيئًا ولا يحصلون عليه.
قالت بلهجة قاطعة تحادث ظافر وعيناها تضيقان كما لو كانت تحاصر الهدف في ذهنها:
“ابحث عن طريقة يا ظافر… أي طريقة، لا يهم كيف المهم أن أحصل على أغنيتها.”
عندما أنهت سيرين المكالمة مع سيمون كانت عيناها كبحرين متجمدين لا أثر للدفء فيهما.
لم يكن في هذا العالم من يعرف دينا أكثر منها فقد تشاركتا ذات الطرق واصطدمتا بذات الأقدار.
في عالم الترفيه والموسيقى لم تكن دينا إلا ذئبًا في ثوب فنانة تعرف جيداً كيف تتسلل إلى عقول الآخرين وتقتنص جهدهم بل وتغرس مخالبها في أحلامهم حتى تذبل بين يديها.
ولولا ظافر وطارق اللذان قدّما لها دعمهما المطلق دون قيد لما استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه لكنها كانت بارعة في استغلال الفرص تتغذى على طيبة الآخرين كما يتغذى الطفيلي على عائله، لكن سيرين فكانت مختلفة… مختلفة جدًا.
كيف لا، وهي التي عرفت معنى العزلة في قلب الضوضاء؟ كانت تعيش في عالم الصوت لكنها لم تسمعه كما يسمعه الآخرون.
ضعف سمعها كان حاجزًا… جدارًا يعزلها عن كثير مما يمر به الآخرون دون أن يدركوه لكن رغم كل هذا إنها أبداً لم تستسلم، فقد خلقت موسيقاها من قلب الصمت، نحتت ألحانها كما ينحت فنان بارع تمثالًا من صخر بضربات من الإرادة لا تعرف اللين.
لسنوات كرّست نفسها لرعاية زكريا ونوح وفاطمة كانت لهم جميعاً بمثابة الأم، والأخت، والسند الذي لم يتزعزع يومًا إذ صنعت من تعبها حياة كريمة لهم، فكيف يمكنها أن تبيع موسيقاها لدينا مقابل المال؟ المال وحده لم يكن يومًا كافيًا ليملأ الفراغات التي يعرفها قلبها جيدًا.
عادت سيرين إلى مسكنها الجديد وبمجرد دخولها وضعت هاتفها جانبًا وولجت إلى الحمام تاركة الماء الساخن ينساب فوقها، يغسل تعب الأيام من روحها، لكن الإرهاق كان أثقل من أن يغسله الماء وحده، وما إن أغلقت عينيها للحظة حتى سقطت في سبات عميق هناك في حضن الماء.
استيقظت على رنين هاتفها الأرضي اللاسلكي المتواجد بغرفة الاستحمام ففتحت عينيها ببطء وكأنها تحاول استيعاب أين هي، ومن ثم رفعت سماعة الهاتف برفق جاءت المكالمة من كوثر.
“ساسو، سأعود خلال بضعة أيام.”
ارتدت سيرين رداء الاستحمام وخرجت إلى غرفتها، تبتسم وهي تقول:
“سأستقبلك بأجمل ترحيب حين تعودين.”
سمعت سيرين صوت كوثر الذي يفيض بالقلق من الطرف الآخر، وهي تتساءل باهتمام بالغ:
“أخبريني، كيف حالك مؤخرًا؟ هل لا زال ظافر يعاملك بفظاظة؟ وتلك الحية دينا… هل علمت أنك عدت؟”
لم تحتج سيرين إلى التفكير طويلًا قبل أن ترد، وكأن كلماتها وُلدت من يقين لا يتزعزع.
تقدمت نحو النافذة وفتحتها قليلًا فاندفع نسيم الهواء يداعب وجنتيها فأغمضت عينيها للحظة ثم قالت بصوت هادئ لكنه يحمل بين طياته شيئًا من الصلابة:
“دينا لم تعلم بعد لكنها ستعرف قريبًا.”
“أما ظافر”… فابتسمت بخفة وهي تتنفس بعمق وكأنها تذيب في داخلها أي أثر للخوف. ثم أردفت كمن تلقّن نفسها قبل أن تخبر كوثر:
“لا تقلقي، لن أسمح له بأن يخيفني.”
بينما كانت سيرين تتحدث إلى صديقتها عبر الهاتف اخترق رنين جرس الباب صمت الليل كخيط من نار يقطع ستار السكون.
التفتت نحو الباب وهي تنظر إلى عقارب الساعة المعلقة على الجدار بتوجس—إنها التاسعة مساءً، فتساءلت بينها وبين حالها “من قد يأتي في مثل هذا الوقت؟”
دون وجود رامي حارسها الشخصي شعرت سيرين بوخزة قلق تتسلل إلى صدرها إذ كان دائمًا هناك كظلٍ لا يفارقها لكنه لم ينل قسطًا من الراحة منذ أيام لذا ألحّت عليه أن يأخذ استراحة مما ترتب عليه أن يتركها لبعض الوقت، طرقت سيرين جبينها بوهن وهي تلوم نفسها فهذا القرار لم يكن صائبًا الآن.
نزلت الدرج بخطوات حذرة وقلبها أخذ يخفق بشدة وكأن طبوله تعلن عن شيء مجهول.
وقفت للحظة أمام شاشة المراقبة تتأملها بأعين مستديرة وعندما رأت من يقف عند الباب اختنق الهواء في رئتيها وتوقف بها الزمن لوهلة أو هكذا خُيّل إليها، تمتمت بصوت خافت:
-اللعنة!! إنه ظافر.
كان واقفًا هناك وجهه محفور بجمود الليل، وعيناه مشتعلتين كجمرتين تحت ضوء الشارع الشاحب… وجوده الآن وفي هذا التوقيت لم يكن كضيف عابر بل كمصير محتوم طرق بابها أخيرًا.
تحجرت قدماها للحظة لكن عقلها أدرك أنه لا يوجد سبب يمنعه من الدخول لذا مدت يدها المرتجفة وفتحت الباب.
في هذه الأثناء كانت لا تزال ترتدي رداء الحمام وخصلات شعرها المبللة انسدلت كسيلٍ داكن على كتفيها ورائحة الورد الممزوجة بدفء جسدها تفوح بتمردٍ في الهواء.
استندت إلى الباب وعيناها تفيض بسحرٍ خفي، ومن ثم ابتسمت بخفة وقالت:
“كنت أتساءل عمن يجرؤ على طرق بابي في هذا الوقت المتأخر… السيد ظافر!! هل تحتاج إلى شيء؟”
ثبتت نظراته عليها كما لو كان يحاول سبر أغوارها، لم تكن كما كانت من قبل، لم تكن تلك الفتاة التي عرفها بل امرأة تكسرت تحت سطوة الزمن ثم أعادت تشكيل نفسها بيدها بصلابة لا يعرفها عنها.
أجاب بصوت هادئ لكنه مشحون بالتوتر:
“جئت لأحدثكِ عن لقائنا.”
ضاقت عيناه قليلًا كمن يزن كلماته بحذر. لكن نظراته الهائمة بها قالت ما لم ينطق به لسانه.
تسلل التوتر إلى أطراف سيرين، وشعرت بحرارة نظراته تشتعل على بشرتها، حاول بكدٍ أن تتماسك، وقالت بنبرة متوازنة:
“لا تخبرني أنك تنوي مناقشة الأمر هنا وأنت لا تزال واقفًا عند الباب؟”
وكأن كلماتها كانت إشارة خضراء فتحرك ظافر على إثرها يخطو إلى مخبأها بخطوات رصينة تحمل من الثقة ما جعل ثباتها المزعوم يتبخر ولكنها أجادت تصنع عدم الاكتراث.
وفي لحظة واحدة لا تتخطى طرفة عين اندفع نحوها مغلقاً الباب خلفه بحركة سلسة فوجدت نفسها ودون عناء منه محاصرة بين صدره العريض والجدار البارد.
تغيرت حرارة المكان فجأة وتصلبت أنفاسها بينما كانت عيناه تجولان بِحُرية وتمهل تتشربان ملامح وجهها، تتفحصان تفاصيلها كما لو أنه يراها لأول مرة.
لم يمنحها فرصة للنطق بل اقترب أكثر حتى اختلطت أنفاسهما.
ثم وببطء مدمر رفع يمينه يكبل خصرها برفق لكن قبضته المُحكمة أخبرتها أنها لن تفلت منه بسهولة.
التقط ظافر خصلات شعرها التي التصقت بجبينها وأخذت أنامله تتسلل بين قطرات الماء المنحدرة كأنها تحاول سرقة لحظة خفية.
كانت عيناه حائرتين بين فيروزيتيها وشفتاها المرتجفتين وذلك التوتر الذي رسمته فوق صدرها المرتفع مع كل نفس.
كانت لحظة واحدة بمثابة طيب فاح ليغلب على رائحة عطن دام لسنوات يؤرق مضجعها بسبب جفاءه لها وزهده الذي أمات الأنثى التي بداخلها… لحظة لم يكن فيها صوت سوى أنفاسهما المختلطة ونبضات قلبين يتصارعان بين الماضي والحاضر.