رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل السادس والثلاثون

عشق لا يضاهى

الفصل 36 

استمعت دينا إلى الجملة الأخيرة عابرةً كمن يلتقط إشارة صوتٍ قبل أن تتلاشى في الأفق، شيء ما في وقع الكلمات أزعجها، لذا لم تستطع سوى أن تجدها… غريبة. 

ماهر لم يكن من أولئك الذين يتحدثون كثيرًا بالكاد ألقى إليها بضع كلمات منذ التقيا ولم يبح لها بشيء يُذكر.

لم تتعمق في الأمر لكنها شعرت بوخزة غير مرئية في صدرها وكأن ضغينة خفية بدأت تتشكل كغيمة ثقيلة لا تمطر لكنها تُعكر الأجواء. 

دون أن تفكر كثيرًا سارت بخطوات واثقة نحو ظافر، ثم قالت بصوتٍ خافت لكنه محمل بغنج مصطنع بما يكفي ليصل إلى مستمعها إحساس بالنفور: 

— “ظافر، السيدة شادية دعتنا للعشاء الليلة.” 

كانت تعلم أن العشاء ليس إلا قناعًا لحوارٍ أكثر عمقًا، محاولة أخرى لجرّهما إلى دائرة الزواج وإنجاب الأطفال، مجرد أمسية أخرى تتكرر بنفس السيناريو المحكم الذي أعدته العائلة مسبقًا وظافر يتهرب في كل مرة أو يغلق الحوار فور بدأه. 

رفع ظافر عينيه للحظة ثم أعادها إلى الأوراق أمامه وكأنه لم يسمعها قبل أن يجيب ببرود: 

— “فهمت.” 

راقبته دينا للحظات ثم أسندت جسدها إلى الأريكة في المكتب متظاهرة بأنها لم تلاحظ تجاهله، وقالت بنبرة حيادية:

— “أنا متفرغة اليوم، سأنتظر معك هنا.” 

حينها فقط رفع ظافر رأسه ببطء وهو يضيق عينيه قليلًا، ينظر إليها نظرة من يزن كلماته قبل أن يطلقها ثم قال بسخرية مبطنة: 

— “متفرغة إلى هذه الدرجة؟” 

ارتبكت للحظة إذ لم تتوقع هجومًا مباغتًا كهذا وبينما كانت تحاول استيعاب المعنى المختبئ خلف كلماته أضاف ببرود أكثر: 

— “لا أحب أن يكون هناك آخرون حولي أثناء عملي.” 

وكأنها تلقت صفعة غير متوقعة ففتحت فمها لترد لكن لا شيء خرج فقط صمت بارد شعرت معه أن الهواء أصبح أثقل مما ينبغي. 

في النهاية ابتلعت شعورها لإهانته لها ووقفت بتماسك مصطنع تقول بصوتٍ خافت لكنه مشحون بمكر: 

— “سأنتظر في الخارج.” 

لم يُكلف ظافر نفسه عناء الرد فقط عاد إلى عمله كأن وجودها لم يكن. 

خرجت دينا بخطوات ثابتة لكنها كانت تدرك أن في داخلها شيئًا ما يتداعى، لم يكن الأمر يتعلق بماهية علاقتهما سواء في الماضي أو الحاضر بل كان يتعلق به وحده… ظافر الذي ظل دومًا كجدار جليدي لا يسمح لأحد أن يقترب منه، وحدها سيرين من كانت تستطيع أن تتحمل هذا البرود دون قيد أو شرط.

بينما كانت دينا تسير في الممرات الطويلة محاولةً تصفية ذهنها من دوامة الأفكار التي تطاردها وقع بصرها على المكتب الزجاجي الفارغ… مكتب طارق.

شعرت بانقباضة خفيفة في صدرها وكأن الهواء المحيط بها أصبح يخنقها أو ربما كونها حية فهي تستشعر الخطر قبل وقوعه.

اقتربت دينا من السكرتيرة وسألتها بصوت حاولت جاهدة أن تجعله هادئًا: 

“ألم يعد طارق يأتي إلى العمل مؤخرًا؟” 

رفعت السكرتيرة عينيها من فوق الأوراق التي بين يديها وردّت ببساطة وكأنها تلقي بجملة عابرة لا تدرك وقعها: 

“أجل، والده منشغل بترتيب زواجه هذه الأيام، لذلك لم يحضر.” 

الزواج؟ 

خفق قلب دينا بعنف وكأن أحدهم قد قبض عليه بين راحتيه وضغط بقسوة، وشعرت بأن أنفاسها تعثرت للحظة وكأنها فقدت السيطرة على إدراكها.

لقد كان طارق يرفض دائمًا أي ترتيبات زواج تُفرض عليه… من أجلها. هل تخلى الآن عن ذلك العهد غير المعلن؟ هل انتهت القصة التي لم تبدأ؟ 

ابتلعت ريقها بصعوبة وسألت بصوت خفيض تخشى سماع الإجابة أكثر مما ترغب فيها: 

“وهل… هل تعرفين من العروس؟” 

ترددت السكرتيرة للحظة وكأنها تبحث عن إجابة دقيقة، ثم قالت بنبرة محايدة: 

“العائلة تُجري عملية اختيار مفتوحة لحفيدة الزوج، وكما تعلمين، الأب لا يرى أن فتيات الأسر العادية يمكن أن يكنَّ ضمن خياراته.” 

اختيار مفتوح؟ 

تعلّقت روحها بهذه الكلمات كأنها قشة أخيرة وسط أمواج قاسية، هذا يعني أنه لم يتم حسم الأمر بعد.

شعرت بنفس عميق يتسلل إلى صدرها وكأنها استعادت شيئًا تملكه وكادت أن تفقده.

تحركت بخطوات سريعة نحو الصالة الخاصة وأخرجت هاتفها ولم تتمكن من منع نفسها من طلب رقم طارق. 

سنوات طويلة عرفته فيها كان دائمًا صبورًا معها، لم يغضب منها قط… لكن في السنوات الأربع الأخيرة كان هناك شيء مختلف، مسافة باردة تفصل بينهما، حاجز شفاف لكنه صلب، كأن بينهما جدارًا من زجاج سميك… ترى من أقام هذا الجدار؟ ولماذا؟ 

لم تعد تستطيع الاحتمال لذا هاتفته على الفور فإذا كان ظافر لا يريد الزواج منها فلِمَ لا يرسى العطاء على طارق الذي كان يحبها بصدق وهي كانت تتصنع الغباء للفوز بغنيمة أكبر، وهي ثروة آل نصران…  

في تلك اللحظة أوقف طارق سيارته أمام بوابة قصر شامخ تتعانق نوافذه مع أضواء الليل كنجومٍ مسجونة في زجاج والتفَّ السكون حوله كعباءة مهيبة تخفي أسراره.

ألقى نظرة خاطفة من النافذة قبل أن يلتفت إلى الحارس الشخصي متأملاً الواجهة الفاخرة للحجرات العتيقة. 

“هل تعيش هنا؟” سأل طارق بصوت محايد لكن عينيه كانتا تحملان حنيناً وفضولًا خفيًا. 

أجابه الحارس بلهجة ثابتة كأنه حجر في جدار القصر ذاته: 

“نعم.” 

كاد طارق يطرح سؤالًا آخر لكن رنين هاتفه قطع تسلسل أفكاره.

التقط الجهاز ببطء وعيناه تضيقان كمن يتوجس اقتراب عاصفة… اسمٌ واحد على الشاشة كان كفيلاً بإشعال نيران الغضب المكبوت داخله:

دينا. 

لو لم يكن لظافر يدٌ في حياتها لكانت الآن مجرد صفحة مطوية في ماضيه لكنه تركها تعيش في عالمه فقط لأنها تستهوي ظافر، أما هو؟ فحبه لها تلاشى منذ زمنٍ تاركًا خلفه كراهية كالجمر متقدة بلا رحمة. 

“ما الأمر؟” قالها ببرودٍ جليديّ حين أجاب على المكالمة. 

على الطرف الآخر شعرت دينا بلسعة المفاجأة، فهي لم تكن تتوقع أن يجيب إذ اعتاد في الأشهر الأخيرة على قطع أي صلة بها كأنها مجرد صوت مزعج في خلفية يومه.

استجمعت أنفاسها وسألته بصوتٍ يحمل شيئًا من الحذر: 

“طارق، سمعت أن والدك يرتب لك زواجًا؟” 

رفع حاجبيه ببطء وكأن الكلمات وصلت إليه مشبعة بالسخرية، فرد بتهكم:

“يبدو أنك شديدة الاهتمام بأموري الشخصية.” 

تسلل البرود إلى صوته كنسيمٍ جافٍّ يسبق عاصفة رملية جعلها تشعر بوخزٍ في صدرها وضيق تنفس.

حاولت أن تبدو هادئة، لكنها لم تستطع إخفاء توترها حين قالت: 

“نحن أصدقاء طارق، بالطبع أهتم لأمرك، أخشى أن تختار الشخص الخطأ… إذا كنت تفكر في شخص ما أخبرني يمكنني أن أتحرى عنها لك.” 

قهقه طارق حتى أدمعت عيناه لكن ضحكته لم تحمل دفء الذكريات بل كانت باردة كصفحة مرآة تعكس استهزاءً مبطنًا. 

“انظروا من يتحدث؟ من أين أتيتِ بهذه الثقة يا دينا؟ أم أنكِ نسيتِ؟ في نظر جدي أنتِ مجرد ممثلة لا أكثر، وإن كنت سأختار شريكة لحياتي فلن تكوني مقبولةً لديه، ولن تليقي بدائرتي أنتِ تعرفين ذلك جيدًا، لذا وفري على نفسك الجهد ولا ترخصي حالك أكثر من ذلك” 

لم ينتظر ردها فقط أنهى المكالمة بضغطه حاسمة وكأن أصابعه تقطع خيطًا أخيرًا بينهما.

على الجهة الأخرى كان وجه دينا يزداد قتامةً وكأن الغضب رسم على ملامحها لوحة من الخيبة والمرارة، زأرت بكل ما أوتيت من قوة وكأن الأرض هالت أسفل قدميها ولحسن الحظ أنها قد ابتعدت عن المبنى الرئيسي للشركة وها هي الآن تسقط على ركبتيها في البهو الخلفي للمخازن الملحقة بالمقر.

يالاه بالشفا يا غالية

الفصل التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top