رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل الأربعون

عشق لا يضاهى

الفصل 40

**أجاب ظافر حارسه الشخصي الذي أخبره بمكان تواجد سيرين بصوت منخفض كمن يعلن انتصاره بصمت:

“لقد حصلت عليه.”** 

في اللحظة التي رأت فيها دينا يديه تترك أوراق العمل أخيرًا كأنهما تحررتا من قيد غير مرئي لم تستطع أن تمنع نفسها من السؤال، وعيناها تلمعان بفضول فظ: 

“هل تذكِّرنا السيدة شادية بالعودة مجددًا؟” 

رمقها ظافر بنظرة مقتضبة كمن يريد اختصار الحديث ثم أجاب بنبرة قصيرة تحمل في طياتها يقينًا لا يقبل الجدل:
 
“لا.” 

في تلك الأثناء راودتها رغبة في استكشاف ما يدور في رأسه، أن تتسلل بين أفكاره كما يتسلل البرق بين ستائر ليلة رعدية لكنها لم تجد الفرصة لذلك.

ظلت عينا ظافر معلقتين بشيء خارج النافذة يمشط الأرجاء بنظرة جامدة كأن مقلتيه تبحرا في مشهد غامض لا يراه سواهما. 

وها هو هدفه المنشود إذ كانت السيارة التي أملى عليه حارسه مواصفاتها عبر الهاتف تتقدم بهدوء في الشارع حين مرّت بجانب مطعم “القمر الذهبي”.

هناك، على حافة الرصيف توقفت السيارة الـ بنتلي السوداء وخرج منها شخصان بخطوات ثقيلة، استقرت عينا ظافر على أحدهما كأن روحه تعرفه قبل أن يراه عقله، تأمل ظافر صاحب الجسد الصغير الذي كان يرتدي قبعةً تخفي ملامحه وقناعًا يغطي أكثر مما يكشف لكن رغم كل ذلك تسلل إلى صدر ظافر إحساس غريب… إحساس لا يُفهم ولا يُفسَّر، إحساس يشبه ذلك الشعور المباغت حين تلمس جرحًا قديمًا كنت تعتقد أنك نسيته. 

ظل يتابع خطواته حتى ابتلعه باب المطعم ثم قال لسائق السيارة خاصته بصوت منخفض لكنه نافذ كالسهم: 

“أوقف السيارة.” 

رمقته دينا باستغراب وحاجبيها التقيا في تساؤل مرتبك: 

“ما الأمر؟” 

لكن ظافر لم يرد فقط فتح باب السيارة وترجل منها بخطوات ثابتة وكأن قلبه قد قرر وجهته قبل أن يدركها عقله.
 

ما إن وطئت قدما كوثر أرض المطعم حتى شعرت بحاجة مُلحّة إلى الذهاب إلى الحمام وكأن جسدها يستجيب بلا وعي لموجة من القلق تسري فيها.

تناولت هاتفها بسرعة واتصلت بسيرين تطلب منها أن تأتي لاصطحاب زكريا ابنها. 

لم تتأخر سيرين وما إن خطت خارجًا حتى صُدمت بمشهد لم يكن في الحسبان.

كان ظافر هناك، ماثلًا أمامها يقترب بخطوات واثقة يلفه وقار البدلة الرسمية التي تعكس أضواء المطعم الخافتة.

لوهلة اجتاحتها موجة من الاضطراب وشعرت براحتَي يديها تتصببان عرقًا، كانت كل خلية في جسدها تصرخ بها وكأنها تحثها على أن تدير ظهرها وتهرب لكن صوته سبق ردّ فعلها. 

“يا لها من مصادفة…” قالها بنبرةٍ لا يمكن تجاهلها. 

لم يكن هناك مفر لذا علقت نظراتها بين الواقع والهروب وبينما كانت تبحث عن أي ذريعة للنجاة من هذا الموقف، تمتمت بصوت حاولت أن تجعله ثابتًا كي تكسب بعض الوقت لتجد منفذاً: 

“هل أتيتَ لتناول العشاء أيضًا، سيد ظافر؟” 

أومأ ظافر برأسه كتأكيد على حديثها  ولكنها لم تنتظر إجابة بل دفعت ساقيها تحاول إجبار جسدها المتصلب على المغادرة وهي تجاهد لتجاوز العاصفة التي اندلعت في أعماقها، غير أن صوتًا حاصرها فجأة من الخلف: 

“سيرين!” 

تجمدت أطرافها للحظة واضطربت نبضات قلبها وكأنها وقعت في فراغ.

التفتت سيرين ببطء متوجسة مما قد تواجهه. 

ولسوء الحظ

على الدرج كانت كوثر تصعد برفقة زكريا ولم يكن في مجال رؤيتهما سوى سيرين، تنفست الأخيرة الصعداء إذ لم يلحظ ظافر وجودهما بعد، ولكن القدر كعادته له تدابيره الخاصة. 

التفت ظافر تلقائيًا نحو مصدر الصوت وعندما وقعت عيناه على الطفل شعر بشيء غريب للمرة الثانية على التوالي وكأن ذاكرته حاولت استعادة صورة من زمن بعيد، شيء ما في عيني زكريا بعث داخله رجفة غير مفهومة وكأنما ظلال الماضي تتراقص أمامه، للحظة ساد الصمت وكأن الكون كله قد توقف عن الحركة. 

أما عن سيرين اجتاحها شعور بارد قد سرى عبر عمودها الفقري وفي لحظة تلاشى الزمن حولها ولم يبقَ سوى هذا المشهد المعلّق بين الحقيقة والهاوية. 

حبست سيرين أنفاسها تخشى أن يناديها زكريا بلقب أمي، اللقب الذي لا يجب أن يُقال الآن… لكن ما خشيت منه هل سيقع؟

ركض الطفل نحوها وابتسامته البريئة لا تعلم شيئًا عن فوضى القلوب حوله هتف بوقار: 

“السيدة سيرين!” 

وللعجب ارتد بصره إلى كوثر ثم سحب يدها، يقول متوسلًا:

“أمي، أنا جائع جدًا… دعينا نتناول الطعام مع السيدة تهامي.” 

استفاقت كوثر من ذهولها على وقع كلماته فأجابت بسرعة محاولة أن تخفي ارتباكها: 

“حسنًا، لنأكل بني.” 

سرعان ما أمسكت كوثر بيد زكريا بينما نظرت إلى سيرين وكأنها تتوسل إليها أن تتحرك، أن تنهي هذا الموقف بأسرع ما يمكن. 

أما سيرين فقد تماسكت بقايا شجاعتها والتفتت إلى ظافر قائلة بحزمٍ هادئ: 

“سأتناول العشاء مع صديقتي، أعتذر عن عدم تمكني من البقاء.” 

لم تنتظر ردّه بل قادت كوثر وزكريا بسرعة نحو الغرفة الخاصة حيث تستطيع أخيرًا أن تتنفس بعيدًا عن أعين العالم. 

بمجرد أن أغلقوا الباب خلفهم شعرت سيرين بأن الهواء قد عاد أخيرًا إلى رئتيها، أما ظافر فقد ظل في مكانه للحظات مشدوهًا كأن عقله يحاول فك شفرة الشعور الذي باغته، لكنه سرعان ما استفاق والتفت بهدوء ومن ثم نزل الدرج بخطوات ثابتة وترك مبلغاً تقديرياً للنادل كتسوية لفاتورتهم قبل أن يغادر تاركًا خلفه سحابة من التساؤلات. 

في الداخل لم تنتظر كوثر لحظة واحدة بل اندفعت إلى سيرين واحتضنتها بقوة وكأنها تحاول أن تمحو أثر هذه اللحظات العصيبة من ذاكرتهما. 

“سيرين! أنا آسفة… لم أكن أعلم أنه سيكون هنا.” 

ربتت سيرين على كتفها محاوِلة أن تبعث الطمأنينة في قلبها وإن كانت هي نفسها لم تستوعب بعد وقع الموقف، فغمغمت تقول بتيه:

“لا بأس… لم أكن أتوقع ذلك أيضًا.” 

لكن كوثر لم تستطع تجاهل الخوف الذي لا يزال يتلبسها، فتمتمت بصوت مرتجف: 

“الحمد لله أن زاك استجاب بسرعة، وإلا…” تلاشت كلماتها لكن عينيها حملتا كل المخاوف التي لم يُنطق بها. 

نظر إليهما زكريا بنضج فاق سنّه، وقال ببراءة جادة: 

“أمي، كوثر… لا تقلقا. أعلم أن أمي يجب أن تظل عزباء في الأماكن العامة حتى تجد لي ولنوح أبًا.” 

اهتز قلب سيرين جراء ما تفوه به الصبي فحملته بين ذراعيها، تعانقه بقوة كأنها تخشى أن تفقده.

كان صوتها مملوءًا بالعاطفة وهي تهمس: 

“حبيبي… أنا آسفة لأنك مضطر لتحمّل هذا!” 

لكنها لم تكن آسفة فقط على هذه اللحظة بل على كل شيء أخفته عنه على الأسرار التي وضعتها بينهما وبين العالم، على خوفها الذي جعلها تبتعد أكثر مما يجب. 

أحمر وجه زكريا وهو يشعر بدفء عناقها، ثم همس بخجل طفولي: 

“أمي، لا تبكي!” 

كان نادرًا أن يطلب منها زكريا عناقًا كما يفعل شقيقه نوح لكنه الآن أدرك كم هو مريح أن يشعر بحضنها أو بالأدق كم هو مطمئن أن يجد الدفء في قلبها. 

مسحت سيرين دموعها سريعًا وربّتت على رأسه بحنان ثم حذّرته برفق وفي عينيها بريق من العاطفة والجدية: 

“لا يمكنك التصرف بمفردك بعد الآن، وإلا فسوف أعاقبك!” 

ابتسم زكريا وكأن قلبه الصغير قد امتلأ بالطمأنينة من جديد بينما بقيت نظرات سيرين معلّقة في الفراغ حيث تساءلت في صمت… كيف سينظر إليها زكريا ونوح إن علما الحقيقة؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top