رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل السادس

عشق لا يضاهى

الفصل السادس.

شعرت سيرين وكأن الد م في عروقها يتجمد؛ لم تصدق ما يحدث حولها… كان كل جزء منها يصرخ بالرفض، ولكن جسدها خذلها ومحاولاتها للمقاومة بدت عبثية وعديمة الجدوى.

في تلك اللحظات، لم يكن في مخيلتها سوى صورة ظافر تتسيد عقلها، كأنما بات هو محور عالمها القاسي.

وصلت ضراوة المشهد إلى ذروتها وذلك حينما انتهى ظافر من مضا جعتها، وريثما بدأت ألوان الفجر المتلألئة تشرق في السماء نظر ظافر إلى سيرين، فلم يرَ فيها سوى كيان منهك لا يقوى على إبداء أي رد فعل إنها مجرد جلد وعظام، ثم حول بصره إلى تلك البقعة الد موية على الفراش… ضاعت الكلمات من بين شفاهه، تلك الكلمات التي من الممكن أن تصف مشاعره المتضاربة، مشاعر لم يكن هو نفسه قادراً على فهمها.

في هذه اللحظة التي امتدت وكأنها دهر، رفعت سيرين يدها لتصفع وجهه الوسيم بلطمة قوية كانت تعبيراً عن كل آمالها وأحلامها المكسورة في حبه الغاشم فكانت تجسيداً لكل مشاعرها الممزقة.

كان نبض قلبها يدوي في أذنيها غامراً كل الأصوات من حولها، فلم تسمع ما كان ظافر يتفوه به من حديث همّ بقوله لتخفيف وقع ما حدث… فقاطعته بصوت متهدج ومتحشرج:

“اخرج!”

غادر ظافر المكان وهو في حالة من الشرود، لم يستطع إدراك كيف تركها خلفه تنفيذاً لرغبتها، إذ كان عقله مشغولاً بتفاصيل تلك الليلة العاصفة وكل ما حملته من معاني وآلام.

عندما استقل ظافر سيارته، انطلق في طريقه واتصل بماهر قائلاً:

“أريد معرفة كل الرجال الذين يعرفون سيرين.”

شعر ماهر بالحيرة… سيرين لم تتواصل مع رجلٍ قط حتى ظافر لم تحاول التقرب إليه إلا بعد زواجهما فكيف لها أن تعرف رجالًا آخرين؟

المفارقة المؤلمة تكمن في أن سيرين وظافر لم يمارسا علاقة إلا عندما كانا على وشك إنهاء إجراءات طلاقهما.

في حوالي الساعة التاسعة صباحًا، جاء كارم محملًا بوجبة الإفطار، لكنه لم يلحظ غرابة تصرفات سيرين… فتمتم يقول بتردد:

“أوه، نسيت أن أخبرك أن لدي وحدة إضافية في شقتي… يمكنك الانتقال إليها؛ فمن غير الآمن أن تعيش امرأة بمفردها في شقة أو غرفة الفندق.”

هزت سيرين رأسها برفض قاطع… كونها لا تكن ترغب في أن تدين له بمعروف؛ فالديون من هذا النوع قد يصعب ردها.

كان كارم يدرك أنها سترفض، فقال:

“الوحدة فارغة على أي حال… علاوة على ذلك أنا لن أطلب منك رسوم إيجار للانتقال إليها”.

ردت سيرين بعد تفكير:

“لكنني لن أعيش هناك أكثر من شهر واحد على الأكثر”.

“شهر واحد مناسب أيضًا، فهو أفضل من ترك الوحدة فارغة وغير مستخدمة”، أجاب كارم مبتسمًا.

لم يستطع أن يفهم لماذا قالت إنها لن تمكث هناك سوى شهر واحد، بينما المستقبل أمامها واسع الأفق لكن على أية حال اصطحبها بسيارته إلى منزله.

كانت سيرين لا تحمل سوى حقيبة سفر بسيطة، وعندما جلست في المقعد الخلفي، غمرتها ذكريات الطفولة مع كارم الذي بدأ يخبرها عن أحداث حياته في السنوات القليلة الماضية.

كارم، الذي غادر البلاد بعد تخرجه من المدرسة الثانوية، عمل بدوام جزئي أثناء دراسته في الخارج… ولكنه لاحقًا، أسس شركته وهو في سن العشرين وأصبح الآن يُعد من رجال الأعمال الأثرياء.

بينما كانت سيرين تستمع بشغف لتجاربه الحياتية الغنية، كانت تفكر في حياتها الخاصة… فبعد تخرجها، تزوجت من ظافر وأصبحت ربة منزل.

امتلأت عيناها بالإعجاب وهي تنظر إلى كارم… قائلة:

“أنت مذهل”.

ابتسم كارم، وقال:

“أنتِ أيضًا لستِ سيئة… كنت أتابع أخبارك بعد مغادرتك القرية… لقد كنتِ حديث الصحف والأخبار بعد فوزكِ بالمركز الأول في مسابقة البيانو للشباب… كما شاركتِ في مسابقة غناء، أليس كذلك؟ كنت أعشقكِ في ذلك الوقت.”

لم يخبرها أن حياته في الخارج أثناء الدراسة لم تكن مثالية، فقد اكتسب عادات سيئة وترك نفسه للضياع.

كان الأمر كذلك حتى رأى سيرين في الأخبار… كانت تلك التقارير الإخبارية بمثابة أشعة الشمس الدافئة، تشرق عليه وتشجعه على الوقوف على قدميه مرة أخرى.

أدركت سيرين أنها قد تناست أيام مجدها تقريبًا حتى أعادها كارم إلى ذاكرتها.

بسرعة أنزلها كارم عند باب الوحدة… وقبل أن يغادر، ابتسمت سيرين وقالت بامتنان،

“شكرًا، لقد فقدت تقريبًا رؤية من كنت عليها في السابق.”

بعد عودتها إلى المنزل، تأملت سيرين في التقويم وأدركت أنه لم يتبق سوى عشرة أيام حتى الخامس عشر من مايو، الموعد الذي كان عليها فيه أن تنهي إجراءات الطلاق… وتذكرت أيضًا وعدها لسارة.

في أحد الصباحات المبكرة، خرجت سيرين لتشتري جرة… وبعد ذلك، ذهبت إلى الاستوديو، حيث التقطت صورة تذكارية بالأبيض والأسود لنفسها، بينما كان طاقم الاستوديو يلتقط صورًا لتعبيراتها الغريبة.

بعدما أنهت سيرين كل هذا، نظرت بذهول إلى النافذة أثناء رحلة العودة بالسيارة إلى المنزل… في تلك اللحظة، تلقت مكالمة من فاطمة التي أردفت تقول:

“سيرين، لماذا حولتِ إليّ هذه الأموال سراً؟ أنا لم أستخدم الأموال التي أرسلتها سأدخرها لكِ، حتى تتمكني من استخدامها متى أردتِ بدء عمل تجاري أو…”

كانت سيرين تخفي الأموال في حساب فاطمة المصرفي… ومع ذلك، لم تكن فاطمة بحاجة إلى هذا القدر من المال لأنها كانت تعيش في الريف… لذا، فقد احتفظت بكل جنيه.

بعد سماعها لشكوى فاطمة، بدأت سيرين في البكاء دون أن تدرك ذلك… ثم قالت:

“هل يمكنك أن تحتضنيني وتأخذيني إلى المنزل كما فعلتِ عندما كنت طفلة يا فاطمة؟”

كانت فاطمة في حيرة بسبب حالة سيرين المزرية.

وأضافت سيرين:

“سأعود في الخامس عشر من الشهر… أريد منك أن تأتي وتأخذيني إلى منزلنا”.

لم تفهم فاطمة لماذا كان عليهم الانتظار حتى اليوم الخامس عشر للقيام بذلك. ولكنها، ردت قائلة:

“حسنًا. سأوصلكِ إلى المنزل في اليوم الخامس عشر”.

على مدى الأيام القليلة الماضية استمر المشفى في إرسال رسائل إلى سيرين يطلبوا منها العودة لإجراء فحص متابعة… ومع ذلك رفضت سيرين بأدب كل تلك الرسائل… إنها قد قررت بالفعل إنهاء حياتها، لذلك لم تكن تريد إضاعة الوقت.

راجعت سيرين حسابها المصرفي الذي كان لا يزال يحتوي على أكثر من 100 ألف دولار… وفي حال أن توفيت، خططت لترك الأموال لفاطمة كصندوق تقاعد.

استمر هطول الأمطار على المدينة خلال الأيام القليلة الماضية… في هذه الأثناء ظل كارم يزورها كثيرًا ودوماً ما كان يجدها تجلس بمفردها على الشرفة غارقة في أحلام اليقظة… كما أدرك أن صممها قد تفاقم إذ كانت سيرين تفشل في كثير من الأحيان في ملاحظة طرقه على الباب.

بعد يوم طويل في مجموعة نصران، اعتاد ظافر أن يتفقد هاتفه بحثًا عن أي جديد… ولكن كما المتوقع مؤخراً لم يجد رسالة واحدة من سيرين.

شحب بريق عينيه للحظة وكأن الهاتف صار أثقل مما تقوى يمينه على حمله، وبينما كان على هذه الحالة غارقًا في أفكاره، طرق ماهر الباب ودخل بهدوء يحمل خبرًا لا يمكن تجاهله. 

“لقد وجدناه سيد نصران… الرجل يدعى كارم الكيلاني وعلى ما يبدو أنه كان صديق طفولة السيدة تهامي.” 

انتفض ظافر مطيحاً بمقعده… وهو يلكم قبضته بالأخرى في حالة هياج شديد إذ لم يكن هذا الاسم مألوفًا فلطالما ظن أنه كان صديق طفولة سيرين الوحيد.

لكن ماهر واصل الحديث متوجساً وكأنه يزيل الغموض ببطء.

“كارم التقى بالسيدة سيرين عندما كانت تعيش في الريف… يبدو أن علاقتهما تعود إلى زمن أبعد مما كنت تتصور.” 

ارتسم عبوس واضح على ملامح ظافر، بينما ظل يتخيل وجه كارم وشيطانه هيأ له هذا الشخص المجهول بالنسبة إليه كمزيجٍ من الوسامة والثقة عند هذه الخاطرة التي رسمت ملامح كارم بمخيلة ظافر شعر وكأن هذا الـ كارم تهديد صامت لكل ما يظنه ظافر ثابتًا في حياته. 

قطع ماهر شروده قائلاً:

“السيد شوقي لا يزال ينتظرك بالخارج.” 

رد ظافر ببرود دون أن يرفع عينيه:

“أخبره أنني مشغول بأمر آخر اليوم.” 

شعر ماهر بالتشوش والارتباك حيال رب عمله؛ فظافر لم يعد يقضي الوقت كعادته مع طارق وأصدقائه الأثرياء، فما الذي تغير فجأة؟ 

لم يمر الكثير وها قد غادر ظافر مكتبه مستقلاً المصعد الخاص به، متجهًا إلى موقف السيارات القابع تحت الأرض أسفل ممر شركته الفخمة.

وهناك ظل ظافر جالساً خلف عجلة القيادة يقاوم إحساس بداخله يفتقدها وبشدة ومن ثم انطلق نحو الفندق الذي تقطنه قامعاً أي ذرة تعقل تحسه بألا يفعل على أمل أن يجد سيرين… ولكن المفاجأة كانت في انتظاره؛ فقد قيل له إنها غادرت الفندق منذ أيام. 

شعر بالإحباط يثقل صدره وكأن شيئًا ما يتهاوى داخله… فأخرج هاتفه مجددًا، وبدأ يتصفح قائمة الأسماء… كان على وشك الاتصال بـ “فاطمة” للحصول على مزيد من التفاصيل، لكن رنين هاتفه قاطعه وكان المتصل هي دينا.

“ما الأمر؟” سألها بصوت جاف. 

“سمعت من السيدة سارة أن سيرين تستعد للزواج.” 

في طرفة عين اتسعت حدقتاه وضاقتا في آن واحد وكأنما عقله يحاول استيعاب العبارة التي سقطت كالصاعقة عليه. زواج؟

الكلمات دوت برأسه لكنها لم تجد لها مكانًا بين ما يعرفه عنها وما سمعه تواً وقلبه حائر بين أذن كادت أن تصم من وقع صدمته وما يريده تواً… لقد اشتاقها.

في صباح خريفي يختلط فيه دفء الشمس بنسمات باردة، كانت دينا تسير بخطوات مترددة تفوح منها المؤامرة نحو منزل سارة… بعد مقابلة طويلة تركتها في حيرة وارتباك، شعرت بحاجة ملحّة لتواجه الحقيقة التي تلوح في الأفق.

عند وصولها، لم تكن سارة وحدها؛ كان تامر هناك أيضًا، يتبادلان الحديث بخفّة، غير مدركَين للغضب الذي يعتمل في داخل دينا.

في تلك اللحظة الحاسمة، اكتشفت دينا مؤامرتهم: خطة محكمة لإجبار سيرين على الزواج من رجل مسن مقابل مبلغ خرافي—ثلاثمئة مليون دولار.

بينما كانت الحقيقة تنكشّف كان قلب دينا يغلي كالمرجل فبالرغم من كرهها لسيرين إلا أنها لا ترغب في إتمام تلك الزيجة كونها لا تريد أن تنعم غريمتها بمال ثري گ خليل….

حاولت دينا الاتصال بظافر، الشخص الوحيد الذي قد ينزع سيرين من هذا المصير المفروش بورود من الثراء الفاحش، لكن هاتفه ظلّ صامتًا، كأنه أعلن تخليه عن العالم بأسره.

وعندما طال صمته ليصبح عبئًا لا يحتمل، أضرمت دينا النار في قلب ظافر وأرسلت له رسالة نصية، وكأنها تحاول أن تحرق معها نياط نابضه.

“سارة أخبرتني أن سيرين طالبت بثلاثمئة مليون دولار قبل الموافقة على الزواج من خليل! هل يُعقل أن تكون قد تحوّلت إلى إنسانة بهذه القسوة والجشع؟” أرسلتها دينا ملحقة بتعبير كرتوني كي تبدو غير مصدّقة… وزادته من الشعر بيتاً بأن تبعتها برسالة أخرى على لسان تامر أخوها لسيرينأضافتضيف بتهكّم:

“أوه أتعلم أنها طلبت من خليل إقامة حفل زفاف أولًا، دون تسجيل الزواج رسميًا، لأنها تعلم جيدًا أنها لا تستطيع الزواج مجددًا بشكل قانوني، طالما أنكما لا تزالان في فترة ما قبل انتهاء الطلاق.”

في تلك الأثناء، كانت سيرين غارقة في وهم من الهدوء الهش… لم تكن تعلم أن سارة وتامر تجاهلا مطالبها وواصلوا ترتيبات خطوبتها، وكأن كلماتها لم تكن أكثر من همسات تُذروها الرياح…. حتى ذلك اليوم الذي وصلت إليها فيه رسالة من سارة قلبت عالمها رأسًا على عقب… وكان فحواها:

“السيد خليل حدد موعد الخطبة: الخامس عشر من هذا الشهر… أمامك أربعة أيام فقط…. استعدّي جيدًا، وأريدك أن تكسبين قلب زوجك المستقبلي هذه المرة…. هل فهمتِ؟”

قرأت سيرين الرسالة، وعيناها مليئتان بالحيرة والصدمة وفي داخلها امتزجت مشاعر متناقضة بين الغضب والانكسار المشوب بالرفض. لم يكن هذا مجرد يوم عابر في حياتها؛ كان اليوم الذي ستودّع فيه فاطمة أمها التي لم تنجبها، بل واليوم الذي ستضع فيه أيضًا نهاية لعلاقتها بظافر رسميًا.

لكن الأقدار لعبت لعبتها القاسية؛ ذلك التاريخ، الذي اختارته لإنهاء حياتها، اختير أيضًا ليكون بداية لكابوس جديد.

الخوف من النسيان دفعها لتدوين تفاصيل تلك الأيام في دفتر ملاحظاتها، وكأنها تحاول أن تحتفظ به في ذاكرتها خوفاً من الضياع.

جلست سيرين في غرفتها الصامتة وأمسكت بالقلم وراحت تكتب وصيتها… تدفقت الكلمات بصعوبة وكأنها تعكس ثقل قلبها… وبعد أن انتهت، وضعت الرسائل التي خطّتها إلى فاطمة وكارم تحت وسادتها، ثم أغلقت عينيها، تنتظر يوم الغد وما يحمل بين طياته من أقدار غامضة.

إنه الرابع عشر من شهر مايو… يوم كئيب لا دفء به وكأن السماء قد أرادت أن تفرغ ما في جعبتها من حزنٍ متراكم إذ انهمرت الأمطار بغزارة بعد ثلاثة أيام من السكون الثقيل.

كان هاتف سيرين مستقرًا على طاولة القهوة يرن بلا توقف… اسم سارة يضيء الشاشة مرارًا وتكراراً وكأنّ إلحاحها كان يناديها أكثر من صوت رنين الهاتف نفسه… واتتها رسائل من تلك الجاحدة التي كانت تسألها عن مكانها بل وتتوسل حضورها… فغدًا سيقام حفل الخطبة وبالطبع كانت سارة تريد عودة سيرين إلى المنزل حيث كل شيء جاهز لاستعدادها للارتباط بـ خليل، لكن سيرين لم تُجب، لا على المكالمة الأولى ولا العشرين… ولا حتى على رسائل سارة النصية فقد كانت تتجنب الحديث وكأنّ الكلمات وحدها قد تجرها إلى واقع لا تريده. 

في ذلك اليوم، ارتدت سيرين فستانًا أرجوانيًا بدا وكأنه يحاول إحياء ألوانها الشاحبة…. زينت وجهها بمكياج خفيف، لكن عينيها الخاويتين ظلتا تفضحان روحًا منهكة.

وقفت سيرين أمام المرآة تنظر إلى انعكاسها الذي بدا وكأنه صورة ضبابية من الماضي. 

تذكرت يوم زفافها بـ ظافر في مشهد معاد… نفس النظرة، نفس الشحوب، نفس الشعور… كانت اللحظة مشبعة بذكريات تخنقها أكثر مما تعزيها. 

بعد أن سحبت سيرين نفسًا عميقًا، خرجت من المنزل دون تردد واستقلت سيارة أجرة وهي لا تعرف وجهتها بوضوح، لكنها وجدت نفسها أمام المقابر.

زفرت سيرين أنفاسها الضائعة تتأمل بتيه المطر الذي ما زال يهطل غزيرًا باردًا… حملت مظلتها ونزلت بخطوات بطيئة وكأنها تخشى خطاها على الأرض أكثر من مواجهة الموت نفسه. 

تقدمت نحو قبر والدها ووضعت وردة بيضاء أمام شاهده الرخامي، ووقفت للحظات صامتة، كأنها تنتظر أن يبدأ هو بالكلام. 

“أبي…” همست بصوت متهدج، كأن الكلمات تثقل عليها أكثر من المطر. 

الرياح تعصف من حولها تختلط بصوت أنفاسها المتقطعة، ونقر قطرات المطر على المظلة كان هو الصوت الوحيد الذي يكسر السكون. 

“أنا آسفة…” قالت بصوت مبحوح، وهي تشعر بالبرد يحف قلبها قبل جسدها.

“لم أكن أرغب في المجيء إلى هنا، لكنني لم أجد مكانًا آخر أهرب إليه… أعترف أنني جبانة.. أبي إنني خائفة من مواجهة الحياة وحدي لهذا السبب جئت إليك… يمكنك الصراخ في وجهي إن أردت، لن ألومك.” 

ثم جلست بجانب القبر، تضم ركبتيها إلى صدرها وكأنها تحتمي من كل ما يطاردها… ظل المطر يغمرها بفيض ولكنها لم تفرِّق بين قطراته ودموعها.

صمت السماء يناديها، وسيرين تواجه حطامها الداخلي. 

فتحت سيرين هاتفها بيدين متوترتين وكأنها تفتح بوابة إلى وادٍ من الأشواك.

أخذت نفسًا عميقًا، وبدأت تقرأ كل رسالة نصية وردتها من سارة… رسائل كانت أشبه بخناجر مسمومة تنغرس في روحها واحدة تلو الأخرى. 

“سيرين! هل تظنين أن بإمكانك الهروب من الحقيقة إلى الأبد؟ لقد أخذ أخوكِ المال بالفعل من السيد خليل… السيد خليل ليس مجرد رجل عادي، تعقلي فلديه سبل ووسائل لتحصيل ما يريد… هل تعتقدين أنه سيتغاضى عن الأمر؟
من الأفضل أن تُظهري الحكمة وتوافقي على الزواج منه غدًا كفتاة مطيعة… فهذا أفضل من أن يجبرك على ذلك بالقوة بعد أن يعثر عليك! الشخص الحكيم دائمًا ما ينحني للعواصف ليحمي نفسه من الانكسار.” 

انتهت سيرين من قراءة الكلمات التي تساقطت على قلبها كالجمر وأغمضت عينيها للحظة طويلة وكأنها تبحث عن ذرة شجاعة بين حطامها.

لم تجد سيرين ما ترد به على سارة سوى رسالة مليئة بالأسى: 

“لا أريد العودة إلى المنزل الآن… يمكنكم أن تأتوا غدًا لتأخذوني من الضواحي الغربية… سأنتظركم أمام قبر أبي.” 

لم تكترث سارة كثيرًا برسالة ابنتها إذ ظنت أن سيرين قد استسلمت أخيرًا، فلم تكلف نفسها عناء الرد… لكن الحقيقة كانت مختلفة… سيرين لم تكن مستسلمة بل كانت تحاول أن تلتقط أنفاسها الأخيرة من السلام وسط عاصفة حياتها… جلست في صمت، تتأمل كل شيء مرت به في الآونة الأخيرة غادرها النهار بلومٍ وكأنه شريط قديم يتكرر بلا صوت…. ومع حلول الليل، أخرجت سيرين من حقيبتها تمثالًا خشبيًا صغيرًا، نحته لها والدها عندما كانت طفلة… كان التمثال أشبه بمرآة تعكس وجهاً غاب عنه الفرح منذ زمن…. احتضنته كمن يحتضن ذكرى أصبحت رمادًا، وحمت جسدها النحيل من المطر الذي بدأ يتساقط بغزارة وكأن السماء تبكي معها ناعيةً حظ تلك المسكينة. 

كانت الثواني ثقيلة أشبه بالدقائق، والدقائق مرت كساعات، حتى دقت ساعة منتصف الليل وكأنها تعلن عن دخولها عتبة أخرى من الألم… لقد أصبح الخامس عشر من مايو حقيقة جاء ومعه مرارة تشكلت بحلقها تزداد كلما نظرت إلى السماء المظلمة التي بدت بلا نهاية. 

عند الثالثة صباحًا، مدّت سيرين يدها المرتجفة إلى حقيبتها وأخرجت زجاجة صغيرة من الحبوب تنظر إليها بعينين غائمتين، وكأنها ترى في كل حبة منها نهاية لمعركة خاضتها وحدها مع عالم لم يترك لها خيارًا.

الفصل التالي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top