رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة (الفصل مائة وثلاثة وستون 163)ظافر وسيرين

عشق لا يضاهى

الفصل 163

رفع **ظافر** أصابعه الطويلة ذات المفاصل الغليظة ومرّرها قرب وجهها كما لو كان يتحسس ارتجاف الهواء بينهما ثم تمتم بصوتٍ يحمل بين طيّاته سخريةً خبيثة ممزوجة بالريبة المصطنعة فما حدث كان عرض من إخراجه:

**”شعركِ أشعث… يبدو أنّ وجبتكما كانت تتعدّى حدود الطعام.”**

كلماته لم تكن مجرد عبارة بل كانت صفعةً من نار أحرقتها دون أن تلامس جلدها وارتدت في صدر **سيرين** كرجعِ صدى عاصف فاغتسلت روحها بذهولٍ مشوب بالخجل والغضب.

ارتبكت خطواتها وهي تتراجع إلى الوراء متجنبةً لمساته كأنّ أصابعه كانت جمراً.

**”لا يُفكر بهذه الطريقة سوى عقلٍ ملوّث.”** قالتها بصوت خافت لكنه كالسهم في صميم الكبرياء.

توقفت يد ظافر في الهواء كأن الزمن قد تجمد فيها وعيناه الضيقتان التمعتا بدهشةٍ ممزوجة بالتهديد… وهي يقول بغيظ مكتوم:

**”أأنا البذيء هنا؟! كل ما قلته كان ظلال شكّ… لكن من ردّ بهذه الحدّة هو من يختبئ خلف شعورٍ مذنب!”**

كان يعلم… بل يشعر بكل ذرة ألمٍ وارتباكٍ تعتريها… لم يكن يحتاج إلى تفسير لكنّه أراد سماعه من شفتيها… أراد أن يسمع الكذب يخرج منها، أن يتذوق تناقضها كما يتذوق الشك مرارته.

ولكن بدلاً من التبرير صفعته بجملة أخرى.

**”وإن كنتُ كما تتخيل، فلماذا لا تزال واقفاً هنا؟ ارحل… قبل أن تلوث عينيك بما تراه.”**

انكمشت المسافة بين الغضب والكبرياء في صدر ظافر وفي لحظةٍ خاطفة جذبها إلى صدره بعناقٍ بدا كقيدٍ مفاجئ ثم همس ساخرًا وقد ارتسم على شفتيه خط من الشيطنة:

**”أتظنين أنّ قميصًا مرتبكًا سيُخفي علامتي التي تزين رقبتك؟ ألهذا ارتديتِه على عجل؟”**

نظرت إليه بذهول ثم أسقطت عينيها إلى ملابسها… وهناك رأت ما لم تنتبه له قبلاً… الياقة مفتوحة كاشفة عن جزء صغير… صغير لكنه كافٍ ليحكي ما لم تقله.

شهقت كأن الأرض انسحبت من تحت قدميها… تتمتم بتلعثم:

**”أنت… كيف عرفت؟! هل… كنت تراقبني؟”**

انهار الحاجز بين الدهشة والخذلان واحمرّت عيناها كأنهما خُضّبتا بخجلٍ موجع وإذا بدموعها تتسلل إلى وجنتيها في صمتٍ هائل فشوّشت رؤيتها وشوّهت ملامح كبريائها.

تراجع ظافر خطوة هو الآخر يتخصر بكلا راحتيه وقد تحلقت مقلتيه ينظر إلى اللا شيء شارداً بنقطة ما في السقف وكأن الألم ارتد إليه.

وخزته مشاعر غريبة لم يعرف لها اسماً. لم يُرد أن يراها تبكي، لم يتحمّل أن يرى انكسارها.

كذب… كذب كما يكذب من لا يملك حيلةً أمام وجعٍ لا يعرف كيف يتعامل معه.

**”وهل أحتاج إلى التجسس لأعرف؟… الأمر واضح منذ اللحظة الأولى.”**

كان يعلم أنه يكذب لكنه لم يستطع غير ذلك إذ أراد أن يقطع خيط الحقيقة حتى لا يُزيدها جراحًا.

أما هي فغرقت في شعورٍ يجلدها من الداخل… الخجل، الذنب، الحيرة، كلّها تجمعت في قلبها مثل أمواج بحرٍ هائج فحتى لو لم يكن كارم من رآها، حتى لو كانت كوثر لكانت شعرت بالخزي ذاته فقد كرهت أن تُرى على هذه الصورة.

إنها دوماً ما كانت تؤمن أن مثل هذه العلامات لا يجب أن تُحمل إلا بدافع الحب لا بدافع الفراغ… أو اللحظة إنها تعلم أن هذا تفكير طفولي في عالمٍ بالغ حيث المشاعر لا تُقاس بالنية بل بالفعل لكنها لم تستطع رغم ذلك أن تغيّر يقينها… إنها لا تزال تؤمن أن الجسد لا ينتمي إلا لمن تُحبه الروح.

لقد عرفت **سيرين** الحب… ولكن ليس ذاك الذي يمرّ في هيئة رجلٍ وسيمٍ وكلماتٍ منمّقة بل ذاك الذي سكن بين تجاعيد وجهَي جدّيها وعاش صامتًا كجذور شجرةٍ نبتت في زمن الحرب وازدهرت رغم كل ما حولها من رماد.

كانا معًا كتوأمين في جسد الحياة، تحمّلا صقيع الفقد وأعاصير الزمن وشوك الأيام… ولم يفترقا.

تذكّرت وهي طفلةٌ صغيرة كيف كان جدّها يُمسك بيد جدّتها بينما الزهايمر يفتك بذاكرتها شيئًا فشيئًا حتى نسيت أسماء الجميع… حتى اسمها، حتى اسمه.

لكنّه ظلّ هناك لم يُغادر… لم يتخلّ عنها كما فعل عقلها بها بل ظلّ يُمسك بيدها كما لو كان يُذكّرها بصمته أنّها ليست وحيدة وأن هناك من يتذكّر عنها كل شيء.

تخلّى الجد عن عرشه، عن شركته، عن مقعده في الاجتماعات… عن كل شيء ووهبها عمره المتبقي، يرعاها كما تُرعى زهرةٌ فقدت بصرها ولكن لا تزال تفوح بعطرها… عشرُ سنواتٍ كاملةٍ قضاها إلى جوارها إلى أن أغمضت عينيها في السبعين من عمرها، وودّعته دون أن تتذكر اسمه لكنّه ظلّ يهمس لها به حتى النهاية.

بعد رحيل جدتها ظلّ جدّها يبتسم لكن ابتسامته لم تكن سوى قناعٍ هشّ يخفي وراءه ألمًا لا تقدر عليه الجبال.

سألته **سيرين** ذات مساءٍ تخلّى فيه القمر عن سمائه:

**”جدي لماذا بقيتَ معها كل تلك السنوات دون أن تشكو؟ دون أن تبتعد؟”**

فأجابها بصوته الذي صار يشبه حفيف أوراق الخريف:

**”عندما تُقابل شخصًا يشبه قوس قزح… تبهت أمامه كلّ الألوان الأخرى…. عندها فقط تُدرك أنّك وجدت الحياة في شخص.”**

ثم وبعد أقلّ من عام انطفأ هو الآخر كأن روحه كانت معلّقة بها فلما رحلت سحبت قلبه معها دون استئذان.

منذ ذلك اليوم آمنت **سيرين** أنّ الحبّ الحقيقي لا يُصادفك مرتين وأن هناك رجالًا خُلقوا ليحبّوا امرأةً واحدة ويظلّوا أوفياء لها حتى في غيابها.

يا لا سذاجتها!! فقد ظنت أنّها يومًا ما ستقابل رجلاً مثل جدّها… رجلًا يحفظها كدعاءٍ في الليل، ويرعاها كحلمٍ يخاف عليه من الفجر لكنها لم تكن محظوظة مثل جدّتها فالرجل الذي أسكنته قلبها لم يفتح لها بابًا في قلبه.

سيئة الجظ سيرين إذ لم يُخبرها جدّها أبدًا ماذا تفعل حين تُحبّ من لا يُحبّك، حين ترى في شخصٍ ما قوس قزح بينما لا يراك هو سوى غيمةٍ عابرة.

تدفّقت دموعها في صمتٍ مُفجع كما لو أنّ كل أوجاع الحياة قد قررت أن تزور وجهها دفعةً واحدة.

رأى **ظافر** ذاك الانكسار في عينيها… شعورٌ غامضٌ ضاق له صدره فجأة فاقترب منها وكأن قلبه يُحركه لا قدماه ومدّ يده الكبيرة فمسح دموعها بخفةٍ متناهية كما لو كان يُزيل عنها شيئًا من خطايا العالم ومن ثم سأل وصوته مزيجٌ من الحنوّ والذهول:

**”لِمَ تبكين؟”**

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top