الفصل السابع
في قصر عائلة نصران، حيث تسكن الفخامة بملامحها الصارخة وتنطق الجدران برائحة الزمن العتيق، استلقى ظافر بجسده المنهك على أريكة غرفة المعيشة الواسعة، تلك التي تحمل بين أنسجتها عبق الأيام وذكريات العائلة.
عاد للتو إلى المنزل، منهكًا بعد يوم شاق زفر باختناق وكأنه يحمل أثقال العالم على كتفيه… لم يكلف نفسه عناء تشغيل الأضواء ربما لأن العتمة كانت أكثر توافقًا مع فوضى أفكاره.
بيده المرتجفة راح يدلك صدغيه في محاولة منه لتخفيف ما علق برأسه من أوجاع… عيناه مغمضتان، وصدره يعلو ويهبط وكأنما يحاول إفراغ ثقل ما بداخله مع كل زفير.
الوقت يمضي، والصمت يخيم، لكن فجأة، انقلب سكون اللحظة على أعقابها وانفتحت عيناه دفعة واحدة وكأنهما استجابتا لنداء خفي اخترق أحلامه المجهدة.
استفاق ظافر بجسدٍ مشدود كوتر عود، ونبضاته تتسارع كمن يركض هاربًا من خطر غير مرئي… كابوس آخر زاره في نومه، لكنه لم يكن كسابقه.. كان كابوسًا مشحونًا بملامح وجه واحد فقط… سيرين… تلك الملامح التي باتت تطارده في يقظته كما تطارده في أحلامه.
كانت الرؤية غريبة، غامضة، كمشهدٍ مسرحيٍّ من عالم آخر يُعرض خصيصًا له… حاول أن يستجمع أنفاسه أو يفسر ما حدث، لكن عقله كان عالقًا في تفاصيل الحلم… أو بالأحرى، في تفاصيل سيرين، تلك التي أصبح حضورها أشبه بشبحٍ لا يريد الرحيل.
لم يستطع ظافر أن يستوعب الحلم الذي أيقظه في منتصف الليل، ذلك الكابوس المروع الذي رأى فيه موت سيرين… شعور ثقيل بالخوف تسلل إلى صدره، وكأن الحلم كان أكثر من مجرد صورة عابرة من عالم اللاوعي؛ بدا أشبه بنبوءة غامضة مشحونة بواقعية مرعبة.
مدّ يده المرتعشة نحو هاتفه، وعيناه تلتقطان بصعوبة تلك الأرقام المتوهجة على الشاشة… الساعة تشير إلى الرابعة صباحًا.
كان يعلم جيدًا أن هذا اليوم يحمل معه نهاية شيء كان ذات يوم جميلاً، نهاية فترة التهدئة التي قررا أن يختبرا خلالها إمكانية استعادة ما ضاع… اليوم، اتفقا على إغلاق ذلك الباب نهائيًا، باب زواجهما.
دفعه إحساس غامض بالقلق لأن يكتب لها رسالة نصية… أنامله تحركت بتردد، وكأن الكلمات ثقل على صدره ولكنه كتب في النهاية:
“لا تنسي أننا سننهي إجراءات الطلاق اليوم.”
في الجهة الأخرى، كانت سيرين تحمل هاتفها حينما انبثقت الرسالة على شاشته… في هذه الأثناء شحب وجهها وكأن الكلمات سلبت منها ما تبقى من قوة… خفتت أنفاسها وشعرت بأنها على وشك الانهيار.
هوى جسدها على أول متكأ إذ لم تكن قادرة حتى على الوقوف بثبات… ولكن رغم ذلك وبإرادة هشة فتحت تسجيل الصوت وردت بنبرة مرتعشة:
“آسفة… ربما لن أتمكن من الحضور اليوم، لكن لا تقلق… سنحصل بالتأكيد على الطلاق.”
لم تكن تماطله فالموت لا ينتظر أحدًا ولا يعطي إنذارًا. حينما ستختفي سيرين عن هذا العالم ستكون الحقيقة الصادمة أنها رحلت ومعها ما كان يربطهما يومًا… وبوفاتها سينتهي زواجهما بطريقة لم يكن أي منهما يتخيلها.
وأخيراً تنفس ظافر بعمق وكأن صدره قد تحرر من حمل ثقيل كان يقيده لسنوات… شعور بالارتياح اجتاحه فجأة دون أن يستطيع تفسيره كما لو كان صوتها الذي تردد في أذنيه من خلال الرسالة الصوتية التي أرسلتها قد تسلل إلى أعماقه ليعيد ترتيب فوضى مشاعره… كان يعلم… بل يوقن، أن سيرين رغم كل شيء لن تكون تلك المرأة التي قد تُقدم على إنهاء حياتهما معاً… هي قوية بما يكفي لتحمل عذاباتها، أبداً لن تسمح بتمزيق رباط زواجهما مهما بلغ الألم.
بتلك القناعة التي تضخمت في أعماقه كيقينٍ لا يقبل الشك، مد يده نحو هاتفه واتصل بها.
على مر السنوات الماضية، كانت المكالمات الهاتفية بينهما تُعد على أصابع اليد…. إذ أن ظافر لم يكن من أولئك الرجال الذين يُفرطون في الحديث فقد كان صمته أبلغ وكلماته شحيحة، يفضل النصوص المختصرة عن المكالمات الطويلة… ومع ذلك، وفي تلك اللحظة بالتحديد كان دافعه أقوى من روتينه المعتاد.
رن الهاتف وسرعان ما التقطت سيرين المكالمة… كان صوتها الذي لطالما حمل مزيجًا من الحذر والانتظار يتردد بالكاد في البداية لكنها لم تملك فرصة للكلام. إذ اخترق صوت ظافر الهواء ببرودة تخللت أذنيها، كما لو كان يحمل ثقلًا من مشاعر دفينة لم تنطق بعد، ولكنه اختار أن يبدأ الحديث بعكس عادته، وكأن هذه المكالمة كانت تحمل بين طياتها أكثر مما يبدو.
قال ظافر بِحزمٍ واهٍ:
“صبري محدود يا سيرين، أنتِ من طلبتِ الطلاق!! هل تشعرين بالندم على زواجنا لأنني لم أعطكِ المال؟ أراهن أن 300 مليون دولار ليست كافية لإقناعكِ بالزواج من شخص جديد.”
انقبض قلب سيرين، وشعرت وكأن الهواء من حولها قد تجمد… حلقها بات ضيقًا كأنها تبتلع غصة مريرة ولم تعد قادرة على استيعاب أي كلمة أخرى مما يقول… كل حرف كان يسقط على مسامعها كطعنات خفية تخترق صمتها الموجع.
في النهاية، قاومت نوبة انهيارها؛ فهي تعلم جيدًا أنها لم ترتكب ما اتُهمت به تواً ولم تكن لتتحمل ظلمًا يطوق عنقها… لذا استجمعت شتات روحها ورفعت صوتها المرتجف بكلمات تحمل مرارةً وقوةً في آن:
“ظافر… لم أهتم يومًا بأموالك طوال سنوات زواجنا… المال لم يكن يومًا دافعي ولن يكون أبدًا! ربما لن تصدقني، لكنني سأقولها رغم ذلك… لم أكن أعلم أن والدتي وأخي قد خالفا العقد حينها. ولن أتزوج أي رجل على وجه الأرض مقابل ثلاثمائة مليون دولار، حتى لو كانت حياتي تتوقف على ذلك!”
كانت كلماتها تتعثر، كأن كل حرف يخرج منها يثقل كاهلها أكثر… أنفاسها متلاحقة، وعيناها تملؤهما العبرات التي ترفض الانحدار.
وعلى الجهة الأخرى من الخط، كان ظافر يصغي لصوت الرياح التي تصفع نافذتها والمطر الذي يطرق بشدة كأنه يعكس اضطرابها الداخلي.
سألها بصوت يقطر قلقًا وحيرة:
“أين أنتِ الآن؟”
لكن سيرين لم تعد تسمع بل كانت غارقة في موجة من المشاعر المتلاطمة، بينما قبضت على الهاتف كأنه طوق نجاة وسط عاصفة هوجاء… وعادت تردد بصوت بالكاد يُسمع وكأنها تخاطب نفسها أكثر من ظافر:
“لو كنتُ أعلم ما فعلته أمي وأخي، لما اخترتُ هذا الطريق… لو كنتُ أعلم أنك أحببتَ دينا، لما وافقتُ على هذا الزواج من البداية… ولو كنتُ أعلم أن والدي سيُصاب في يوم زفافنا، لما كنتُ لأرتدي ثوب العروس أبدًا!”
كررت العبارة الأخيرة، كأنها تحفرها في ذاكرتها: “لم أكن لأتزوجك…” وكأنها تعيد صياغة حكايتها بصوت يفيض بالندم والألم لتترك كلمتها الأخيرة عالقة بين صخب العاصفة وضجيج المشاعر.
كان ظافر يستطيع، دون أدنى جهد، أن يلتقط من نبرات صوتها وارتعاش كلماتها مدى الضيق الذي أثقل قلبها طوال تلك السنوات… كان رتمه أشبه برائحة الماضي التي تعصف بالوجدان تلك الرائحة أخبرته دون كلام عن شعورٍ دفين بالندم يتخلل اعترافاتها.
وبينما كانت كلماتها تتغلغل في عقله كسمٍّ بطئ، شعر فجأة بثقلٍ رهيب يخنق صدره، وكأن كتلةً كالعلقم التصقت بحلقه تمنعه من التنفس… حاول التماسك، لكن الغضب والذهول كانا أسرع في السيطرة عليه.
“بأي حق تندمين على زواجنا؟!” صوته الذي كان عادةً ثابتًا اهتزّ هذه المرة بنبرة خشنة تفيض ألمًا مكبوتًا… وأكمل وهو يكاد يصرخ:
“ألم تكوني أنتِ من انهمرت دموعها على وجنتيها وأنتِ تتوسلين لي كي أتزوجك؟ ألم يكن أنا اختيارك الأول دوماً؟! اجيبيني هل كنتِ تتصنعين الحب؟!”
لكن صوت سيرين قد تبدّل وأصبح أضعف من أن يُسمع بدت وكأنها تتحلل من بين يديه كسراب يتلاشى مع الريح… ترددت كلماته في الفراغ، قبل أن يصرخ بقلق متزايد:
“سيرين! أين أنتِ الآن؟! ردي عليّ!”
لم تأتِه أي إجابة… صمتها كان أبلغ من الكلمات.
ووسط ذلك السكون القاتل، اخترقت أذنه جملةً أخيرة خرجت منها بصعوبة وكانت كلماتها متقطعة كأنفاسها: “الحقيقة هي… أنني أتمنى لك السعادة…” ثم تلاشى صوتها فجأة، تاركًا فراغًا مخيفًا كأنما اختطفتها الريح.
ثانية واحدة كانت كافية لإحداث الفوضى داخله إذ سمع صوتًا مكتومًا، تبعه ارتطام…. أدرك حينها أن الهاتف قد انزلق من يدها، وتخيل كيف ابتلت شاشته بمياه الأمطار التي لم ترحمها… رأى في مخيلته الشاشات تخفت تدريجيًا كما تخفت روحها أمام عينيه.
حدّق ظافر بهاتفه حيث ظهرت عبارة “تم إنهاء المكالمة”. كان الذعر يعصف به، والمشهد برمّته عالق بين اليقين والخيال…. شعوره أشبه بمن يقف على حافة هاوية، عاجزًا عن فعل أي شيء لإنقاذ نفسه أو إنقاذها.
حاول ظافر الاتصال بسيرين مرة أخرى، إلا أن ما وصله لم يكن سوى صوت آلي جامد يخلو من أي لمسة إنسانية: “عذرًا، لا يمكن توصيل مكالمتك الآن… يرجى المحاولة لاحقًا.”
تنفس بعمق وهو يمد يده ليلتقط معطفه… ارتداه بتثاقل واستدار نحو الباب إلا أنه تجمد في مكانه كأنما أُصيب بشلل مؤقت… تدفقت الأفكار إلى رأسه كأمواج عاتية يضرب بعضها بعضًا دون هوادة.
ماذا لو كانت سيرين تخطط لشيء ما؟
لقد كانا على حافة الانفصال، خطوات معدودة فقط تفصل بينهما وبين إنهاء كل شيء… فلماذا إذن تزعجه فكرة علاقاتها؟ لماذا يقتحم ماضيها ذاكرته كطعنة غادرة، لتثير بداخله خليطًا متناقضًا من الغضب والحنين؟
لكن صوتها، ذلك الصوت الذي يسكن قلبه رغم كل شيء ظل يتردد داخله. تلك الجمل التي لم يستطع نسيانها مهما حاول:
“لو كنت أعرف ما فعلته أمي وأخي، لما اخترت الزواج منك…”
“لو كنت أعرف أنك أحببت دينا دائمًا، لما تزوجتك…”
“لو كنت أعرف أن والدي سيتعرض لحادث في يوم زفافنا، لما تزوجتك!”
تراجع عن أفكاره كمن يهرب من مواجهة نفسه لكنه وجد قدميه تقودانه بلا وعي… فجأة، وجد نفسه أمام باب غرفة سيرين القديمة لقد مرّ شهر كامل منذ أن خرجت منها ومن حياته بأكملها.
مد يده بتردد، وكأنه يخشى ما قد يجده بالداخل ثم دفع الباب ببطء.
غمرته رائحة غريبة خليط من عطرها القديم والهواء العالق في مكان مغلق… كان الجو ثقيلًا كأنما يحمل بين جدرانه أسرارًا لم تُكشف بعد.
أضاء ظافر المصباح، لكن النور بدا عاجزًا عن طرد الفراغ القاتل الذي يخيم على الغرفة… جلّ ما هنالك لا شيء… فقط اللاشيء.
كانت الغرفة أشبه بعلبة فارغة لا تحمل أي أثر لسيرين سوى صمت ثقيل وخانق… اختفت متعلقاتها الشخصية كما اختفت هي وكأنها لم تكن هنا يومًا ومع ذلك كان شعور وجودها يحيط به كطيف عالق بين الماضي والحاضر يراقبه بصمت لا ينقطع.
جلس ظافر على طرف السرير يلتقط أنفاسه الثقيلة تحت وطأة الصمت المخيم على الغرفة… وبيدٍ باردةٍ بطيئة، امتدت أصابعه نحو درج المنضدة المجاورة، لتُخرج أنامله دفتر ملاحظات صغيرًا أُلقي فيه الزمن بعبثية.
فتح الدفتر الذي تبين فيما بعد أنه عائد لسيرين ولم يجد فيه إلا جملة واحدة كُتبت بخط يدٍ أنيق يشبه التموجات المتداخلة في بحرٍ هادئ:
“أعتقد أن أولئك الذين يختارون الرحيل بعد أكثر التجارب بؤسًا يفعلون ذلك بسبب صراعات داخلية لا حصر لها تغذت على صبرهم قبل أن يقرروا أخيرًا المغادرة.”
ظل ظافر يحدق في الكلمات للحظات، ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة اخترقت صمته الموحش، وقال بصوت خافت بالكاد يُسمع:
“بؤس؟ ألم أكن أنا البائس، وأنا أُرغم نفسي على تحمل وجودك طوال تلك السنوات؟”
رمى ظافر الدفتر في سلة المهملات بقوة وكأنما يحاول أن يُلقي معه شيئًا آخر أثقل من الورق…. لكنه، وبغرابة تناقض شعوره، توقف في منتصف الطريق نحو الباب وكأن قدميه تجمدتا… ثم عاد بخطوات مترددة والتقط الدفتر من السلة برفق وكأنه يخشى أن يُحدث به خدشًا ووضعه بعناية على طاولة السرير قبل أن يعمد إلى المغادرة متوجهاً إلى غرفته كي ينعم بقسطاً من الراحة ومع ذلك جفاه النوم فرٍّا من عينيه ولم يجد سبيلًا لاستعادته.
في الجانب الآخر من المدينة، كان كارم يتقلب في فراشه بلا جدوى. لم ينل قسطًا كافيًا من النوم هو الآخر، فقد كان عقله مثقلًا بقلق غامض على سيرين التي كانت تتصرف بغرابة في اليومين الماضيين لكن ذلك الغموض الذي يحيطها كان يراوغه كظلٍ يهرب من ملاحقته.
عندما أشار عقرب الساعة إلى الرابعة صباحًا أيقظه صوت رنين هاتفه فرفعه سريعًا ليجد اسم فاطمة على الشاشة.
أجاب بقلقٍ واضح:
“فاطمة؟ ماذا هناك؟”
جاء صوتها مترددًا، محملًا بثقلٍ لم يعتده منها:
“كارم، أحتاج مساعدتك… أشعر بالقلق على سيرين… لقد رأيتها في حلمٍ غريب للتو.”
اعتدل كارم في جلسته، وبصوتٍ يغلبه الفضول المشوب بالخوف سألها:
“أي حلم؟”
ردت فاطمة بصوت مرتجف، وكأنها تحاول استعادة تفاصيل الحلم من غياهب ذاكرتها:
“رأيتها في الحلم تقف وسط المطر بملابس مبللة وشعرها يتساقط على وجهها كأنه جزء من المطر ذاته… كانت تطلب مني أن أحملها وأقودها إلى المنزل… وجهها كان يحمل نظرة غريبة وكأنها تنادي عليّ لكنها لم تتحدث.”
توقفت للحظة عندما خانتها الكلمات، ثم تابعت بصوتٍ مختنق:
“اتصلت بها منذ قليل لكنها لم ترد… والأغرب من ذلك، أنها قبل أيام طلبت مني أن أُرافقها يوم الخامس عشر… أشعر أن هناك شيئًا غير طبيعي سيحدث.”
صمت كارم للحظة يفكر في كلامها، وربط بين ما قالته وبين تصرفات سيرين الغامضة، ثم نهض مسرعاً، وبدأ يرتدي ملابسه في عجالة:
“لا تقلقي، سأتوجه إليها فورًا.”
كانت تلك الكلمات هي كل ما احتاجته فاطمة لتشعر ببعض الراحة، بينما استعد كارم لمواجهة شيء لم يكن يعرف عنه سوى القليل، لكنه كان يشعر في أعماقه بأنه قادر على تغيير القادم.
كان كارم يقيم على مقربة من المنزل الذي أعطاه إيجاراً لسيرين لذا لم يستغرق وصوله إلى شقتها أكثر من عشر دقائق.
ولج إلى داخل المكان بخطوات مترددة ويداه ترتجفان، لكنه تفاجأ بشقتها التي بدت فارغة كصحراء مهجورة يخيم عليها السكون والهواء يعج برائحة غيابها.
كان باب غرفة النوم مفتوحًا على مصراعيه، ولا يوجد أثر لها هناك.
تساؤلات كثيرة تسللت إلى عقله المرتبك، تلاحقه كظلال طويلة في عتمة الليل. “أين يمكن أن تكون؟ ولماذا قد تغادر في مثل هذه الساعة؟” ولكنه لم يجد جوابًا شافيًا بين أفكاره المشتتة.
كانت الوسادة على سريرها تحتضن خطابين وكأنهما إرثٌ من مشاعر خفية.
التقطهما كارم بحذر كمن ينتظر أن يبوحان له بسر عظيم. فتح الرسالة الأولى وكانت موجّهة إليه كلماتها الأولى كانت أشبه بخنجر يغرس في صدره:
“لقد قمت بتحويل رسوم الإيجار إلى حسابك البنكي… شكرًا لك كارم على رعايتك لي خلال الأيام الماضية… هل تعلم؟ لم أستطع أن أكون أي صداقات منذ قدومي إلى هنا… كنت أشعر أنني شخص فاشل تمامًا لأنني لم أجد من يفهمني أو يشاركني يومياتي… لكن عندما التقينا جعلتني أدرك أنني لست سيئة كما كنت أعتقد. أشكرك بصدق على ذلك…. لا تحزن، سأكون الآن مع والدي… إنه سيعتني بي كما لم يعتنِ بي أحدٌ من قبل.”
كلماتها كانت كوقع قطرات المطر الباردة على وجهه فتركت أثراً عميقًا ثم تنسلّ بهدوء.
ثم انتقل بعينيه إلى الرسالة الأخرى التي كانت موجهة إلى فاطمة… قرأها بعناية، واستوعب سريعًا العنوان المكتوب فيها… كان ذلك هو المكان الذي من المفترض أن تلتقي فيه فاطمة بسيرين لتصطحبها.
على الفور هرع كارم خارج الشقة وكأن الحصى تشتعل تحت قدميه كالجمر.
الضواحي الغربية لم تكن بعيدة عن مكانه لكن كل دقيقة في الطريق كانت تشبه قرنًا. عشرون دقيقة مرت وكأنها ساعات طوال، تشبع قلبه بثقل الانتظار. الأفكار تضج في رأسه كعاصفة هوجاء:
“كيف يمكن لسيرين، التي كنت أراها نجمًا ساطعًا في سماء موهبتها، أن تختار طريقًا كهذا؟”
في تلك اللحظة كانت سارة هي الأخرى، تقود سيارتها نحو الضواحي الغربية لكن لغرض مختلف تمامًا إنها ذاهبة لتصطحب سيرين إلى زفافها الذي كان مميزًا لدرجة أن تكلفته بلغت ثلاثمائة مليون دولار.
كانت السماء تتشح بعباءة رمادية وكأنها تبكي حزناً لا نهاية له، حين انهمرت الأمطار بغزارة على المقبرة المهجورة في الضاحية الغربية… قطرات المطر كانت كرماح تهوي من السماء تخترق كل شيء في طريقها بلا رحمة.
سيرين، بوجهها الشاحب وجسدها الهزيل الذي بدا أشبه بشبح يلفه الألم، كانت جاثية أمام القبر…. فستانها الطويل التصق بجسدها النحيل بفعل المطر مبرزاً ضآلتها وكأنها روح على وشك الانسحاب من هذا العالم.
كانت نظرتها فارغة وكأنها ترى شيئًا لا يراه الآخرون، شيئًا أبعد من حدود الحياة.
في هذه الأثناء كان هناك صوت وقع أقدام يخترق هدير المطر… إنه كارم يركض ووجهه يعكس مزيجًا من الذعر واليأس.
صاح باسمها: “سيرين!” لكن الرياح والمطر التهما صوته ولم يصل نداءه إلا كهمس شاحب.
عندما وصل إليها بدا الوقت وكأنه قد توقف… لاحظ كارم الزجاجة الفارغة بجانبها التي تحمل علامة “حبوب منومة”.
اتسعت عيناه بذعر، ويداه المرتعشتان حملتا جسدها الخفيف كريشة بلا حياة. “استيقظي يا سيرين! لا تجرؤي على النوم!” كان يهتف، وصوته مشحون برجاء يائس وهو يركض بها أسفل التل غير مكترث بالطين الذي يغمر خطواته.
في تلك اللحظة، كانت سارة جالسة في المقعد الخلفي لسيارتها الفاخرة، تحدق من النافذة… أمطار كثيفة طمست معالم الطريق لكن عينيها التقطتا مشهداً غير مألوف: رجل يحمل سيرين بين ذراعيه وكأنهما جزء من لوحة مأساوية.
“ما الذي فعلته هذه الحمقاء الآن؟” تمتمت، وهي تخرج من السيارة… كانت سارة ترتدي فستانًا زاهي الألوان اختارته لتلك الليلة الاحتفالية، لكن الأمطار حوّلته إلى قطعة بالية.
مشاعر الغضب خيمت على وجهها المتجعد لكنها تجمدت في مكانها حين اقتربت أكثر.
رأت سيرين بلا حراك بين ذراعي كارم… وجهها كان شاحبًا حد الموت وعيناها مغمضتين بإحكام كأنهما ترفضان مواجهة هذا العالم.
على الأرض بجانبها كانت الزجاجة الفارغة تتدحرج بفعل الرياح. انحنت سارة والتقطتها، وعيناها تقرآن العبارة: “حبوب منومة”. في تلك اللحظة، ارتجفت يداها وهي تتذكر كلمات سيرين قبل أيام: “ماذا لو أعيد إليك حياتي؟ هل يعني هذا أنني لم أعد مدينًا لك؟”
سقطت المظلة من يدها لتكشف عن وجهها الذي بللته الأمطار… لم يكن واضحًا إن كان البلل من المطر أو من دموعها التي غزت ملامحها دون استئذان.
“يا حمقاء! كيف تجرؤين على فعل هذا بي؟ أنا من أنقذ حياتك!” صرخت بصوت ارتجف كما ارتجفت شفتيها… كانت نظراتها مزيجاً من غضب وذهول وخوف وكأنها تواجه ظلاً من ماضيها الذي لم تتخلص منه قط.
بينما انهمرت زخات المطر بغزارة على زجاج السيارة، جلس تامر داخلها يراقب سارة التي وقفت بالقرب من المقبرة، ملامحها غارقة في الغموض وملابسها مبتلة كأنها قطعة قماش منسوجة من الحزن. لم يفهم شيئًا مما يجري لكنه كان يشعر أن المشهد أمامه ينذر بكارثة.
عندما قرر أخيرًا النزول من السيارة، انطلق راكضًا نحوهم لتصدمه الحقيقة القاتمة التي ارتسمت أمام عينيه ككابوس. توقف في مكانه بأنفاسٍ متلاحقة ووجهه يزداد شحوبًا.
كانت سيرين هناك هامدة بلا حراك. هل يُعقل أنها أقدمت على إنهاء حياتها؟ فكرة لم يستوعبها عقله لكنها اخترقت قلبه كالخنجر… شعور بالعجز الجارف اجتاحه وشبح الذعر تسلل إلى ملامحه.
بصوت مختنق، قال: “أمي… ماذا سنفعل الآن؟ لقد استخدمت أموال السيد خليل لتأسيس شركتي الجديدة…!”
كلماته ارتطمت كصاعقة بعقل سارة لكنها لم تلتفت إليه. أما كارم، الذي وقف على مقربة فقد أدرك أخيرًا السبب الذي حوَّل سيرين التي كانت يومًا رمزًا للحيوية والقوة، إلى هذه الحالة البائسة.
قبضت سارة على يديها بقوة، وكأنها تحاول كبح الألم الذي يغلي في صدرها، لكن عينيها فضحتا ما يجول في خاطرها. وبنبرة حادة ممزوجة بالمرارة، صرخت في وجه سيرين: “لماذا لم تموتي بعد أن تزوجين من السيد خليل وحينها كان يمكنك قتله لترثيه؟ لماذا؟!”
نفذ صبر كارم الذي رفع نظره نحوهم وعيناه محمرتان كالجمر المشتعل، ثم قال بلهجة قاطعة: “اخرجوا من هنا… حالًا! لا تضطروني أعيد كلامي!”
في تلك اللحظة أدرك تامر وسارة وجود كارم الذي وقف شامخًا بهيبته، وكأن حضوره كان يوازي حضور ظافر في قوته وثقله.
بصوت تحدٍّ ممزوج بالارتباك، سأله تامر: “من أنت؟ هذه أختي! من أعطاك الحق كي تطلب منا أن تتركها؟!”
ثم استدار نحو سارة وقال بصوت منخفض، يكاد أن ينكسر تحت وطأة التوتر: “أمي… رجال السيد خليل يلاحقوني. قالوا إننا محكوم علينا بالقتل ما لم نسلمها إليهم حالًا!”
هدأت ملامح سارة تدريجيًا وكأنها استسلمت أخيرًا للحتمية القاسية التي تواجههم. ثم نظرت إلى سيرين نظرة تحمل مزيجًا من القسوة واليأس، وقالت بصوت خافت لكنه صارم: “خذوا سيرين إلى السيارة. عليها أن تتزوج، حتى لو ماتت!”.