رواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل الثامن

عشق لا يضاهى

الفصل الثامن

“فهمتُ.” 

تقدَّم تامر بخطوات متسارعة نحو كارم عازمًا على انتزاع سيرين من بين ذراعيه وكأن نيران الغضب المشتعلة في صدره لن تنطفئ إلا باستعادتها… كانت نظراته متحفزة، أنفاسه مضطربة، ويداه ترتعشان بين التردد والإصرار لكنه لم يدرك أنه على شفا مواجهة لم يكن مستعدًا لها.   

بلمح البصر وقبل أن تلامس يد تامر جسد سيرين انقضّ عليه كارم كعاصفة هادرة مسددًا له ركلة عنيفة أسقطته أرضًا بقوة صاعقة.   

ارتطم جسد تامر بالأرض بقسوة حتى أن صوت سقوطه كان كوقع صخرة انحدرت من أعلى جبل.

تأوه تامر بصوت مكتوم ممسكاً بصدره الذي بألم حاد وكأن الهواء قد انتُزع منه عنوة.

حاول تامر أن يتكلم، أن يصرخ، أن يعترض، لكن الكلمات خانته، وتبددت أنفاسه في الهواء البارد، فلم يكن قادرًا سوى على اللهاث المتقطع.   

حين رأت سارة ابنها ملقىً على الأرض، أسرعت إليه جاثية بجانبه، ومدت يدها المرتعشة لتساعده على النهوض، وهي تلتفت نحو كارم بعينين مشتعلة بالغضب نارية النظرات إذ بدت وكأنها صقر يستعد للانقضاض على فريسته، وصاحت بغضب مكتوم:   

“كيف تجرؤ على معاملة ابني بهذه الوقاحة والعدائية؟!”  

لكن كارم لم يكترث، كان يقف هناك طويل القامة مهيبًا ممسكًا بسيرين بين ذراعيه وكأنه يحكم قبضته على قطعة ثمينة لن يفرط بها أبدًا.

أخذت عينا كارم تلمعان ببرودة قاتلة فكانت نظراته أشبه بشفرة حادة تشق الهواء… لم يكن مجرد رجل في تلك اللحظة بل كان وحشًا خرج من أعماق الظلام بكيانٍ جليديٍّ لا يعرف الرحمة.   

تحت زخات المطر التي أغرقت شعره بدا وكأنه قد وُلِد من العاصفة ذاتها، جسده مبلل، ملابسه تلتصق بعضلاته وكل قطرة ماء تسيل منه تحمل في طياتها شراسة لا تُوصف.   

بصوت منخفض لكنه مرعب، زأر:   

“هل لديك رغبة في المو ت؟”  

كانت كلماته أشبه بقبضة حديدية سقطت على قلب سارة وتامر فجمدت الد ماء في عروقهما، فابتلع كلاهما خوفه بصمت ولم يجرؤا على النطق بكلمة واحدة.   

استدار كارم محكمًا قبضته حول سيرين، وسار بخطوات واثقة وسط الظلام والمطر غير آبهٍ بنظرات الذهول والخوف التي لاحقته.   

لكن قبل أن يبتعد تمامًا توقف للحظة، ثم استدار برأسه قليلًا لتمطر عيناه سارة بنظرات جعلت الهواء من حولها يبرد فجأة.   

وقال بصوت ثابت، بلا أي تردد:   

“لقد ذكرت وصية سيرين تسجيلاً احتفظت به… لقد وعدتِ بعدم التدخل في حياتها بعد الآن… آمل ألا تكوني قد نسيتِ ذلك.”  

ثم مضى في طريقه تاركًا خلفه صمتًا مثقلًا بالخوف، وقطرات المطر التي تواصل هطولها وكأنها تغسل آثار المواجهة العنيفة التي شهدتها هذه الليلة.

كانت سيرين تفضل الموت على أن تظل ابنة سارة… وفي الوقت ذاته تعلم أن التسجيلات ليس لها أي أثر قانوني ولن تعني أنها وسارة قد قطعتا علاقتهما إلى الأبد لكنها تعرف نوع الشخص الذي كانت عليه سارة.

أجل فـ سارة تعتبر سمعتها حجر الأساس في حياتها، الشيء الذي لا تقايضه بأي ثمن… ومجرد فكرة أن يُسرّب ذلك التسجيل إلى العامة كانت كفيلة بتدمير عالمها بالكامل… فبهذا ستصبح في أعين الجميع تلك المرأة التي أودت بحياة ابنتها، وسيتحول هذا الوصم إلى لعنة تلازمها ما بقي من عمرها. 

لذا حين وصلها تهديد كارم، لم يكن أمامها سوى خيار واحد… الهرب، ومعها تامر، وكأن النجاة لم تعد تعني لها أكثر من الهروب الأعمى. 

قفزت سارة إلى داخل السيارة بأنفاس متلاحقة وعقل مشوش، ولم تدرك سوى انعكاس المشهد في مرآة الرؤية الخلفية… هناك، رأتها بين ذراعي كارم. سيرين ابنتها… كانت تبدو كجثة هامدة. 

شعرت بقبضتيها تتصلبان وأظافرها تنغرس في راحتيها حتى شعرت بوخز الألم. 

  • “لا تلوموني على القسوة.. أنتما الاثنان من بدأتما اللعب مع الليدي سارة،” قالت وصوتها مشبع بجليد لا يذوب… ومن ثم استكملت مردفةً:

“إن كنتما تبحثان عن مذنب فانظرا إلى فشلكما.. إلى عجزكما عن السيطرة على غضب ظافر عندما يعلم بعلاقتكما… أنتما وحدكما من أوقعتما نفسيكما في هذا المصير البائس.” 

لبرهة، انتفض شيء في داخلها طعنة غير متوقعة من الألم اخترقت صدرها فهي بالأخير أم.. أم بلا رحمة ولكنها لازلت أم…

سرعان ما دفعت سارة ذلك الإحساس المخزي من وجهة نظرها بعيدًا لتعود إلى قوقعتها الباردة. إذ لم يكن هناك ما هو أكثر أهمية الآن من تبرير موقفها أمام “خليل” العريس المنتظر، حتى سيرين لم تعد ضمن الأولويات. 

أما عن كارم فهو لم يتردد لحظة… إذ انطلق إلى أقرب مستشفى، وهو يضغط على جسد سيرين بين ذراعيه وكأنها قد تنفلت من بين أصابعه في أي لحظة.

كان الطاقم الطبي يراقبه وهو يسرع بها على كرسي متحرك إلى غرفة العمليات، لكنه لم يستطع التنفس، لم يستطع حتى أن يرمش حين انطفأ ضوء الغرفة، معلنًا أن الأمر بات خارج إرادته تمامًا. 

بعد دقائق ثقيلة، خرج الطبيب ووجهه يحمل ما يكفي من القلق ليجعل الدم يتجمد في عروق كارم. 

-حالة المريضة حرجة… هل هناك أحد من أقاربها؟ نحتاج إلى توقيع على نموذج الموافقة لإجراء عملية جراحية طارئة.” 

تجمدت أطراف كارم وانقبض حلقه كأن أنشوطة خفية التفّت حول عنقه. 

  • “ماذا يحدث معها؟” قال بصوت أجش، أقرب إلى الهمس منه إلى الكلام. 
  • “نحن بحاجة إلى موافقة أحد أفراد العائلة، ولكن علينا أن نكون واضحين… المريضة في وضع خطير، وقد لا تنجو.” 

كأن العالم كله ينهار أمام عيني كارم إذ لم يكن هذا مقبولًا، فقدانها لم يكن خيارًا.

وفي لحظة اختفى هدوؤه المعتاد وتحولت نظراته إلى شرر متطاير، وأمسك بياقة الطبيب بقوة جعلت الأخير يختنق للحظة. 

  • “لا أريد سماع هذا الهراء،” قالها كارم من بين أسنانه وصوته يقطر تهديدًا صريحاً “إذا لم تخرج سيرين من هذه الغرفة حية، فالمستشفى بأكملها ستدفن معها.” 

دفع كارم الطبيب جانبًا والغضب يتأجج في صدره قبل أن يتسنى للأخير حتى الرد.

وفي ثانية سُمِع صوت خطوات مسرعة في الرواق فالتفت الجميع ليجدوا مجموعة من الأطباء يرتدون المعاطف البيضاء، ملامحهم جادة، وخطواتهم مدروسة، يحملون هالة من الهيبة لا تخطئها العين.. وبمجرد أن وقعت أعينهم على كارم انحنوا باحترام. 

  • “السيد كارم” قال أحدهم. 

نظر إليهم كارم بثقة رجل اعتاد أن يؤمر، ولا يُؤمر. 

  • “أنقذوها.” 

لم يكن هناك حاجة لمزيد من الكلمات. 

  • “مفهوم،” جاءه الرد، قبل أن يختفي الأطباء خلف أبواب غرفة العمليات. 

وفي الخارج، ظل كارم واقفًا وعيناه مسمرتان على الباب فيما كان قلبه يخوض معركة طاحنة بين الخوف… والغضب.

حينها فقط، انتبه الطبيب المهمّش إلى الحقيقة التي غابت عنه طويلًا، الحقيقة التي تجلت أمامه كضوء خاطف وسط عتمة الإهمال… كارم لم يكن مجرد شخص عابر بل كان ذا شأن، وكانت مكانته تفرض نفسها حتى في أوج الغفلة عنه. 

في تلك الأثناء، كان ظافر غارقًا في مهامه داخل مجموعة “نصران”، لكنه لم يكن حاضر الذهن بما يكفي لإنجاز عمله… كانت أفكاره تتراقص بين أمواج القلق والاضطراب وكأنها تتنازع فيما بينها في حرب للسيطرة على عقله. 

أما طارق، فقد كان على دراية باليوم الذي يعيشان تفاصيله، فلم يستطع تجاهل ما يدور بخلد صديقه إذ تطلع إلى ظافر بحاجبيه معقودين يقول في دهشة حذرة بنبرة مباشرة: 

“ألم تتفقا على إنهاء إجراءات الطلاق اليوم؟”

توقفت أنامل ظافر عن تقليب صفحات الوثيقة التي بين يديه، وتيبست أصابعه كما لو كانت قد تجمدت على الورق.

التوى فمه في عبوس حادّ، وصوته خرج باردًا لكنه يحمل بين طياته اضطرابًا دفينًا: 

“لن نذهب بعد الآن.”

قطّب طارق جبينه، وانتصب في جلسته متحفزًا، عازمًا على سبر أغوار الموقف.

“لماذا؟” تساؤله لم يكن مجرد استفسار عابر بل كان مطرقة تحاول دق باب الحقيقة المغلق. 

حاول ظافر أن يبدو متماسكًا لكنه شعر بأن كآبة ثقيلة جاثمة على صدره، فأجبر كلماته على الخروج وكأنها تتعثر بين شفتيه: 

“اتصلت بي هذا الصباح… قالت إنها لن تذهب.”

تراجع طارق في مقعده الوثير يسند ظهره رافعاً يديه في الهواء، يقول بسخرية متوقعة: 

“كنت أعلم أن الأمر لن يكون سهلًا يا ظافر! إنها لا تزال تُعقّد الأمور عليك، أليس كذلك؟”

ثم أردف بنبرة تهكمية تحمل في طياتها استهجانًا مستترًا: 

“إذا كانت ترفض أن تمنحك ما تريد، فعليك التقدم بطلب الطلاق بعريضة واحدة…”

لكن ما أزعج ظافر أكثر من أي شيء هي الطريقة التي كان طارق يشير بها إلى سيرين بازدراء، مُطلقًا عليها لقب “سيرين الصمّاء” كلقب تهكمي يُقزّم حضورها… ورغم محاولات ظافر لتجاهل الأمر إلا أن شيئًا داخله كان يشتعل كلما سمع ذلك اللقب وكأنما تُدق مسامير غير مرئية في روحه.

ارواية عشق لا يضاهى بقلم أسماء حميدة الفصل التاسع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top