الفصل 46
كان ظهور دينا المفاجئ بمثابة حجر ألقي في بركة ساكنة فعكرت صفو اللحظة وتلاشت على إثرها تلك الأجواء الحمـ ـيمة التي غلفت الغرفة منذ قليل.
أما ظافر فلم يتأخر في الاقتراب من سيرين مجددًا غير أن الأخيرة تراجعت خطوة إلى الوراء وكأنما هبّت عليها ريح باردة فدفعها إحساس خفي بالهروب.
تقهقرها الغير متوقع وتلك الحركة البسيطة التي أوصلت إليه إحساس بنفورها منه كانت كفيلة بإشعال نيران الغضب في عيني ظافر وأخذت العديد من التساؤلات تضج برأسه:
كيف لها أن تتراجع عنه؟ كيف وهي التي كانت دومًا مَن تبادر بالاقتراب؟ كيف تبدّل كل شيء بهذه السرعة؟
استقامت سيرين في وقفتها، وهي تحول تهدأت وتيرة أنفاسها كي لا يُفضح اضطرابها، ثم قالت بنبرة رسمية باردة:
“سيد ظافر، ما الأمر الذي تود مناقشته معي؟”
كانت تدرك تمامًا أنها لا تملك رفاهية التسرّع لا سيما عندما يتعلق الأمر بظافر، ذلك الرجل الذي تتحرك أفعاله وفق شيفرة غامضة لا يمكن التنبؤ بها تمامًا كبحر هائج يخدعك بهدوئه قبل أن يبتلعك في لحظة لذا لم يكن لديها خيار سوى الحذر… الحذر الشديد.
أما ظافر، فكان يطيل النظر إليها، متمعّنًا في قسماتها، متفحصًا لغة جسدها كما لو كان يبحث عن شيء مفقود، ثم قال بنبرة ملغّزة:
“ألستِ من عشاق العمل الخيري؟ تعالي غدًا، لديّ مكان أريدك أن تريه.”
لم تجد سيرين مبررًا للرفض فهزّت رأسها بالموافقة، ثم غادرت المكان بخطوات موزونة، لكنها ما إن فتحت الباب حتى وجدت دينا واقفة بالخارج كما لو كانت تنتظرها منذ الأزل.
قطّبت دينا حاجبيها بخوف وسدّت طريقها على الفور، بينما كانت عيناها المتوترة تفضح خوفها، وهي تغمغم بخفوت لا يخلو من المكر:
“سيرين… أنتِ على قيد الحياة! هذا رائع! لا بد أن نتحدث!”
نظرت إليها سيرين بنصف ابتسامة، تلك الابتسامة التي تحمل في طياتها غموضًا أكثر من الكلمات ذاتها ثم قالت ببرود:
“معذرة يا آنسة… لكن، من تكونين؟”
انفرجت عينا دينا في صدمة وكأن الأرض انشقت تحت قدميها، تقول بعدم تصديق:
“أنتِ… لا تعرفينني؟!”
لكن سيرين لم تتكلّف حتى عناء التفسير بل زادت الطين بلّة حين أضافت بنبرة ساخرة:
“هل كنا مقربتين من قبل؟ آسفة، لا أذكر، كما أنني لا أشعر برغبة في الحديث معك.”
ثم استدارت بلا اكتراث واتجهت نحو المصعد تاركة دينا غارقة في دوامة من المشاعر المتضاربة وما إن أُغلِق باب المصعد حتى ابتلعت الأرض الصمت ولم يتبقَّ سوى ظل القلق يخيّم على ملامح دينا المشدوهة.
وبلا تردد اندفعت دينا إلى مكتب ظافر الذي كان جالسًا خلف مكتبه غارقًا في أفكاره حين دخلت فجأة.
رفع ظافر عينيه إليها بنظرة حيادية وسأل ببرود:
“ما الأمر؟”
تنفّست دينا بعمق محاوِلة السيطرة على ارتباكها، ثم قالت بنبرة قلقة:
“أردت أن أشرح لك بخصوص الأخبار التي انتشرت اليوم… لم أكن أعلم أنني تحت عدسات المصورين لكن الصحفيين التقطوا صورًا لنا ونشروها على الإنترنت زاعمين أنك أخذتني إلى منزلك لمقابلة والديك وأننا سنـ…”
توقفت عن الكلام حين لاحظت كيف تقلّصت ملامح ظافر للحظة لكنها لم تكن قادرة على قراءة أفكاره.
في وقت سابق من ذلك الصباح كانت سكرتيرته قد أطلعته على الأخبار المتداولة لكنه لم يحرّك ساكنًا ولم يأمر قسم العلاقات العامة بإصدار أي توضيح، لم يكن السبب أنه لم يهتم… بل لأنه أراد أن يرى كيف ستتفاعل سيرين مع الأمر ولكن الآن بعد أن رأى برودها التام شعر وكأن شيئًا داخله قد انكسر.
هل حقًا لم يحرّك الأمر بداخلها ساكنًا؟
تأمل ظافر وجه دينا للحظة قبل أن يقول بلامبالاة:
“حسناً لقد فهمت والأمر برمته لا يعنيني.”
لم يكن ذلك الرد الذي توقعته دينا فتقدمت نحوه خطوة وسألته بتردد:
“ظافر… ماذا عن سيرين؟! ألم تكن ميتة؟ كيف يمكن أن…”**
بمجرد أن سمع ظافر اسم سيرين يخرج من فمها حتى أغلق الملف الذي بين يديه ورفع عينيه إليها مردفاً ببرود جليدي:
“ومن قال لكِ أنها ماتت؟”
تجمّدت الكلمات في حلقها بينما كانت تنظر إليه كأنها رأت شبحًا فلم يتركها ظافر تنغمس في هواجسها بل أشار نحو الباب بإيماءة حاسمة وقال بصوت قاطع لا يقبل الجدل:
“إذا لم يكن لديكِ شيء آخر فاخرجي.”
خرجت دينا من مكتبه وهي تكاد لا تصدّق ما يحدث، فقد أخذت الأفكار تتراقص في عقلها كأشباح تعبث بعقلها، وبدأ شعور غريب بالخوف يتسلل إلى قلبها.
كيف لشخص كان يُفترض أنه مات أن يعود إلى الحياة؟ وكيف سيؤثر ذلك على علاقتها بظافر الغير مستقرة من الأساس؟
ارتجفت أطراف دينا وهي تتخيل جميع الاحتمالات… فـ سيرين لم تعد مجرد شبح من الماضي بل عادت لتنتزع كل شيء.
بعد أن غادرت سيرين مكتب ظافر وجدت نفسها في مكتب آخر كأنما تُعيد ترتيب حياتها وفق خارطة جديدة.
جالت بعينيها في المكان كمن يحاول ترويض واقع لم يختره ثم استدارت واتجهت نحو الطابق السفلي.
لم تكن قد تحركت سوى بضع خطوات حتى اعترضها أحدهم تلمع بعينيه نظرة مُبطنة بمعانٍ لم تتضح بعد.
مرت عشرون دقيقة وسيرين تجلس قبالة دينا في غرفة خاصة، وبالرغم من الهدوء الذي ساد أجواء الغرفة إلا أن الهواء كان مشحوناً برائحة التحدي.
“سمعت أنك فقدت ذاكرتك؟”
قالتها دينا والسخرية تتسلل من بين كلماتها كما يتسلل السم في كأس نبيذ، ومن ثم استكملت حديثها المتهكم:
“هل يعني هذا أنك نسيتِ والديك وعائلتك أيضًا؟”
ارتشفت سيرين قهوتها بتمهل ثم وضعت الكوب أمامها برفق كما لو كانت تزن كلماتها قبل أن تُلقي بها في وجه خصمتها.
“وما الذي تحاولين قوله بالضبط دينا؟”
ضمت دينا شفتيها في تعالٍ وعيناها تطلق طعنات أشبه بسكاكين صقيلة تتلمس موضع الطعن، تقول بغرور زائف:
“سيرين، أعلم أنك تغارين مني لأنني أخذت ظافر منكِ لكن أليس من المثير للشفقة أن تلجئي إلى هذه الحيل للتقرب منه؟”
مالت سيرين بجسدها قليلاً إلى الأمام ثم استطردت بنبرة من يعلن انتصاره الأخير:
“ألم تري الأخبار؟ أنا وظافر سنتزوج قريبًا، هل تربيتِ على سرقة رجال الأخريات؟”
لم ترد سيرين مباشرة بل انحنت برأسها قليلًا تميلها إلى اليمين تنظر إليها بحاجب مرفوع قبل أن تنطلق ضحكة خافتة من بين شفتيها حيّرت دينا فألقت عليها نظرة متوجسة، تسأل بنبرة صوت متلجلجة وقد بدا عليها الارتباك:
“ما الذي يضحكك؟”
رفعت سيرين عينيها إليها وبهدوء أشبه بالسكون الذي يسبق العاصفة، قالت:
“أضحك على مدى حسن أخلاقك دينا.”
في لحظة تحولت ملامح دينا التي فهمت الإهانة المغلفة واشتعلت عيناها بالغضب.
لكن سيرين لم تمنحها فرصة للرد بل تابعت بنبرة ثابتة:
“هل تزوجتِ أنتِ وظافر حقًا؟ آخر ما علمتُه أنكما لم تتزوجا بعد وإن لم تكوني زوجته فكيف أسرقه منك؟ ثم أخبريني ما الدليل الذي لديكِ على أنني فعلت؟”
في تلك اللحظة شعرت دينا وكأن الأرض تميد تحت قدميها؛ فلطالما كانت هي من يوجه السخرية، فمنذ متى أصبحت هي هدفًا لـ سيرين؟
حاولت دينا أن تُخفي اضطرابها فوضعت قناعًا من البرود وقالت بصوت خافت تواري فيه رجفة الغيظ:
“يبدو أنكِ لم تفقدي ذاكرتك بعد.”
عندما تصطدم النيران ببعضها البعض، ترى أيهما سينطفئ أولًا؟
تابعونا على جروب روايات عالمية بنكهة عربية، أو متابعة صفحتي الشخصية روايات أسماء حميدة